بعض من حملوا هذه الشهادات والدرجات العلمية صدقا أو وهماً، إذا استمعت إليه يتحدث رأيت أنه لا يدرك حتى البديهيات، في فنون اللغة العربية والعلوم الدينية
تحصيل العلم له طرائق متنوعة، كان منها في الماضي في حضارة الأمة المسلمة أولًا النبوغ، فلم يكن ينتسب إليه إلا من ظهرت أمارات النبوغ عليه وهو لايزال صبيًا صغيرًا يتردد على الكتّاب، فيسعى العلماء من أجل اجتذابه إلى حلقات الدرس في الجوامع الكبرى ومدارس العلم عبر أرض المسلمين كافة، ليمنحه العلماء المعرفة ويلقنوه العلم في مختلف فروعه وفروع المعرفة، وعلوم أُخر يعتبرونها علوم آلة كعلوم اللغة العربية وتنوعها، وعلم المنطق، وعلوم الجدل والمناظرة، وحينها لم يكن طلب العلم مقتصرًا على العلوم الدينية وحدها، وكان بين علمائها من يجيد علم الفلك، وعلم الطب وغيرهما من العلوم، فإذا بدأ يتميز طالب علم في أحد العلوم اختص به عالم يلازمه حتى يأخذ عنه جل علمه، ثم تنقل بين العلماء في هذا العلم حتى إذا استوفى ما عند علماء بلده رحل إلى غيرهم في البلدان الآخرى، وما كان أحد منهم يستعجل في الجلوس ليعلِّم، حتى يبلغ من العمر أربعين سنة إلا ما ندر، وكان طلب العلم لا تنفق عليه الحكومات، وإنما تنفق عليه الأوقاف، وكان العلماء يربون تلاميذهم على القيم والآداب قبل أن يعلموهم العلوم، لذا كثرت مؤلفاتهم عن أخلاق العلماء، وفي هذا الجو برز علماء جهابذة موسوعيون، وعجز تعليمنا الحديث في أن يمد الوطن بأمثالهم، حتى أساتذة جامعاتنا ممن حصلوا على أعلى الشهادات، ولو ذهبنا نعد من حصلوا على درجة الدكتوراة ممن عملوا في الجامعات أو خارجها لم نستطع أن نحصيهم، وتبحث على آثارهم العلمية فلا تجد إلا القليل النادر، والذي لا يرقى إلى درجة ما تركه لناء علماء الأمة السابقون، ولعل جلَّهم لم يكتب حتى بحوث الترقية، ولو تتبعت موضوعات بحوث الماجستير والدكتوراة لأصبت بالإحباط، فكثير منها في موضوعات فقهية قتلت بحثًا من قديم، ولا فائدة ترجى من إعداد بحوث جديدة فيها لا تضيف شيئًا، ولو ذهبت إلى ماكتب من بحوث في العقيدة لوجدت الكثير منها إنما أعاد ما في بطون الكتب التي عنيت بدراسة الفرق الإسلامية وما تم من ردود بينها، وفي كثير منها إحياء لفرق أصبحت من حفريات الماضي، ولم يعد لها وجود إلا إذا كان القصد اتهام أحد بها كالمرجئة والقدرية وما شابه ذلك، ولاشك أن إحياء الاختلافات العقدية بين المسلمين تتبعها أحكام بالتبديع والتفسيق، وقد يتورط البعض في التكفير، وكان من الممكن استبعادها عن طريق مناهج حديثة لإثبات العقيدة الصحيحة بالأدلة والبراهين دون أن نثير بين الناس الفرقة، والحقيقة أن ممن حملو الدكتوراة لانصرافهم إلى تحصيل العلم باستمرار أصبحوا في فنونهم علماء يشهد لهم الجميع بذلك، ولكنهم القلة الذين أخلصوا لله في طلب العلم وغايتهم أن ينفعوا المسلمين بما علموا، ولكن بعض من حملوا هذه الشهادات والدرجات العلمية صدقًا أو وهمًا، إذا استمعت إليه يتحدث رأيت أنه لا يدرك حتى البديهيات، في فنون اللغة العربية والعلوم الدينية، بل لا يستطيع أن يستدل على ما يقول بنص استدلالاً صحيحًا ولا يوثق أحدهم أقواله، وبعضهم لا يستحضر النص أبدًا، وطالب الدراسات العليا إذا كان لا يحفظ من كتاب الله إلا السورة أو الاثنتين، أو أقل من ذلك ولا يحفظ من الحديث إلا الأربعين النووية أو أقل من ذلك فكيف يعد رسالة في العلم الديني وهو يجهل مصادره، ولو امتحنت بعضهم أن يذكر لك من مصادر العلم الديني أهمها لارتبك، ومثل هؤلاء إذا تكاثروا أضاعوا هذا العلم وإساءوا إليه، وعلى كل حال فالشهادات وإن علت درجتها لا تصنع عالمًا، فمن يتذكر مثلي من كانوا علماء لهم حلقات في الحرمين الشريفين وجلهم لم يحملوا الشهادات، ولكنهم كانوا علماء بارزين تركوا خلفهم تراثًا علميًا معترفًا بإبداعاتهم في مجالاته، وقد تلقينا العلم على أيدي بعضهم، وفي المدارس علّمنا أمثالهم، خاصة أولئك الذين أتونا من الأزهر الشريف، ولم يحملوا هذه الشهادات ولكنهم كانوا موسوعات علمية تمشي على قدمين، وانتفعنا بما علمونا وكم أتمنى لو أن كلياتنا الدينية أعادت النظر في شروط القبول فيها، ولم تر أن يلتحق بها أضعف طلاب الثانوية، فإذ كانت كليات الطب والهندسة تشترط نسبة 90% فما فوق في الحصول على الثانوية، وهم يطببون الأجساد، فيجب ألا يدخل في الكليات الدينية إلا المتفوقون لأنهم يطببون النفوس، فلنعد للعلم الديني هيبته بإعادة النظر فيه فهل نفعل هو ما أرجو والله ولي التوفيق.