العنف داخل الأسرة

علينا أن نستحث المتخصصين لدراسة أوضاع الأسرة في بلادنا لنحدّ من هذا العنف المتنامي داخلها، وأن نصدر من النظم ما يكفل اختفاءه أو تحجيمه

ممارسة العنف في المجتمعات الإنسانية قديم جدًا، بل لعله وجد مع وجود البشر على هذه الأرض أول مرة، تمثّل في قتل أحد ابني آدم أخاه لخلاف بينهما، ولكن هذا العنف يختفي حينما يوجد في المجتمع الإنساني نظام راقٍ، ينظم العلاقة بين الأفراد والجماعات بعدل وإنصاف، وأول القوانين وأهمها وأكثرها قدرة على تنظيم هذه العلاقة هي الرسالات الإلهية التي أرسل بها الله ملائكة رسلًا ليبلغونها لرسلٍ من البشر يبلغون الناس تعاليمها، وأصفى عهود تلك الرسالات عندما كان رسل الله هم من يطبقون أحكامها ويسيرون على هدى آدابها وقيمها، وحينذاك كان العنف الممارس من البشر على البشر يختفي، خاصة بين المؤمنين بهذه الرسالات الإلهية، وكلما ابتعد الزمان عن ذلك العهد المضيء، يبدأ العنف بالعودة إلى المجتمعات البشرية، وقد شعر الناس بالحاجة إلى قانون يحمي مجتمعاتهم من العنف المتبادل إذا غاب عن مجتمعاتهم الوحي الإلهي، فنشأ في الأمم ما نسميه الدساتير والقوانين التي يضعها البشر لأنفسهم، وكلما ارتقى فكر البشر وحضاراتهم جوّدوا ما يضعون منها فدرأوا عن أنفسهم خطر العنف المتبادل المدمر، وفي مجتمعاتنا المسلمة ظل العنف يتوارى كلما ارتقى تطبيق المجتمع لأحكام وقيم الدين، ويزداد هذا العنف ضراوة وينتشر كلما ابتعد الناس عن هذا التطبيق بوعي واقتدار، واستنباط النظم ذات الجودة والمحكمة التي تمنع هذا العنف من أحكام الإسلام وقواعده ومقاصده، ولعل أخطر أنواع العنف، هو ما ينشأ داخل الأسرة، وبين أفرادها، ذلك أن الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، فاذا رأى الأبناء أباهم يضرب أمهم الضرب المبرح، ولا يخاطبها إلا بأسوأ خطاب، وإذا أخطأ أحدهم جلده بالسياط حتى يغمى عليه، ويعتبر كل هذا تأديبًا، فلا شك أن الأبناء إذا كبروا ساروا على نفس الطريق، فترى العنف حينئذٍ ينتشر في كل اتجاه داخل المجتمع وقد جاء الإسلام بضبط للعلاقات داخل الأسرة بما لم يعهد عند البشر من قبل، فبنى مؤسسة الأسرة على رباط موثق بكلمة الله بين زوجين دعاهما إلى المودة والرحمة، وكرّه إليهما الانفصال عن بعضهما حتى لا يضيع بينهما الأولاد، فجعل الطلاق الذي قد يُحتاج إليه أحيانًا عندما تستحيل الحياة بينهما، جعله أبغض الحلال، حتى لا يُلجأ إليه إلا اضطرارًا، وبنى العلاقة بينهما على الاحترام المتبادل، وضرب نبي الرحمة المثل لهم قدوة بنفسه، فما ضرب بيده قط امرأة، فحينما نجد أن العنف يتزايد بين أفراد الأسرة، فعلينا البحث الجاد عن الأسباب التي أدت إليه، ولعل أهمها غياب الثقافة الرفيعة، التي ترتقي بالعلاقة بين البشر إلى الأسمى، وسنجد لا شك جذورها في هذا الدين الحنيف، لو أحسنّا عرضه في مناهجنا التعليمية ومقرراتنا الدراسية، وسنجد الأسباب في غياب نظم واضحة مستنبطة منه تحكم العلاقة بين الزوجين، وبين الأبناء والوالدين، لا تكتفي بالوعظ وحده، ولكنها أيضا تقوم على العقوبات الرادعة، إذا وقع العنف في دائرة الأسرة، فإن لم يزع القرآن أصحاب النفوس المريضة ردعتهم العقوبات الحاسمة، ولنا أن نجتهد في باب التعزير بتحديد عقوبات تردع من يقوم بالعنف، الذي أصبحنا نجد له أمثلة في مجتمعنا تتجاوز كل حد، من الإضرار بالنساء، وبالأبناء إلى درجة أن هذا العنف يزهق الأرواح أحيانًا فهذه القصص التي نقرأها اليوم على صفحات الصحف، والتي بلغ فيها العدوان على الأطفال الدرجة التي تفقدهم الحياة، وهذه الممارسات غير الإنسانية ضد الزوجات، حتى وجدنا لدينا من المعنفات من تزدحم بهم دور الرعاية، إننا اليوم في أمس الحاجة إلى إعادة النظر في كثير من الأوضاع التي أهملناها زمنًا ليس باليسير، حتى سمحنا لثقافة رديئة أن تنتشر تجعل من الزوج سجانًا لأسرته بيده السوط يلاحقها به كل حين، كلهن وكلهم في نظره متهمات ومتهمون لا تثبت عنده لهن ولهم براءة، إن فهمًا لقوامة الرجال على النساء تعني شيئًا كهذا لهو إساءة للدين أولًا، ثم إساءة للإنسان الذي كرّمه الله، فالمرأة إنسان لها كل الحقوق وعليها الواجبات كالرجل تمامًا، فما كُلّف الرجل وحده بالإسلام، ولم تكلف هي وحدها، وهي مستقلة عنه بإنسانيتها وكرامتها وما لها وإن ربط بينهما ميثاق الزوجية، فعلينا إذن أن نستحث المتخصصين في الشريعة والقانون وفي علمي الاجتماع والنفس من أجل أن ندرس أوضاع الأسرة في بلادنا، لنحد من هذا العنف المتنامي داخلها وأن نصدر بعد ذلك من النظم ما يكفل اختفاء هذا العنف أو تحجيمه على الأقل، فهل نحن فاعلون، هو ما أرجو والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: