ليس هناك في عالم البشر ما هو ثابت لا يتغير، ومن ظن أن أمة ستبقى في حال واحدة لا تتغير، رغم ما يمر بها من أحوال وظروف، تجعلها حيناً في مقدمة الأمم، ثم تمر بها ظروف أخرى تنحدر بها حتى تصبح في مؤخرة الأمم، فليقرأ التاريخ وليعتبر بأحداثه فكم من أمة سمت وارتقت حتى ظن المفكرون أنها لن تنحدر بعد سمو كهذا، إلا أن ظروفها تغيرت فأخذت في الانحدار تدريجياً حتى أصبحت في ذيل الأمم فها هي أمة المسلمين ارتقت حتى كانت المسيطرة على كل أمم الأرض أو كادت ثم تغيرت الظروف تدريجيًا حتى أصبحت نهباً لأمم كانت الأضعف والأجهل، وفي عالم الغرب حيث أوروبا التي وصفت بالقارة العجوز نهضت فيها أمة حتى أطلق عليها العالم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس حيث شملت ممتلكاتها أو مستعمراتها جل المعمورة، ولكنها لسوء إدارتها أخذت تفقد ممتلكاتها جزءاً بعد جزء حتى اقتصرت على دولتها الأصل، وهكذا كان حال إمبراطوريات كثيرة تفككت حتى أصبحت اليوم دولة قومية صغيرة تعاني، هكذا هي حياة الدول والحضارات، ومن يظن أن حضارة مهما ارتقت ستبقى في موقعها حتى آخر الزمان فهو واهم، واليوم أكبر دولة في العالم هي الولايات المتحدة الأمريكية، وها هي النذر تلوح في أفقها، ولعلها اليوم في حالة الانحدار، وإن لم يشعر المتشنجون الأمريكيون، وحتما لن تبقى على ما هي عليه، وهي تتصرف كما تتصرف اليوم، أما أوروبا التي حاولت تدارك أمرها عبر الاتحاد الأوروبي، والذي كان المثال الذي يحتذى الذي يبشر به المعجبون منا بالغرب، ذاك الصنم العصي على التفتت في نظرهم، والذي بدأ مع مشروع خروج بريطانيا منه بنذر بتفتته ليعود دولاً صغيرة كما كان من قبل، وها هي قوى أخرى تستعد لتحل محل القوتين العظميين الاتحاد الأوروبي وأمريكا، فها هي الصين تصعد، وها هي الأمة الألمانية تجرب حظها لتعود إمبراطورية كبرى في هذا العالم، وكان يمكن للعالم الإسلامي بدوله التي تفتتت وتتفتت كل يوم أن يكون من القوى الصاعدة لو أن دوله عملت بجد للصعود في سلم الحضارة، وما يدرينا لعل الله يوفق بعضها لتكون نواة إمبراطورية جديدة، رغم أن هذا مستبعد في المنظور من الزمان القريب، لأن العقبة الكأداء في سبيل ذلك تتمثل في عقول تدنت حتى لم تر عقلاً ينهض سوى العقل الأوروبي، وأخذت تدعو لتقليده حتى وهو في زمن انحداره وتفسخه، بعد أن انقلبت عنده الحضارة الى سعي حثيث نحو شهوات المزابل، كالمثلية وكأنها أم الحريات التي يسعى لتعميمها في العالم المعاصر، حتى ذاك الذي بقيت له من ماضٍ تليد طهارة هي من قيم دين خالد، وعقول كهذه سبب انحدار لا نهوض منه أبدا، ومع هذا فلنا قوم سادرون في غي لا عودة لعقل ناضج معه أبداً، وما انتشر تقليد في أمة إلا وغاب النبوغ والقدرة على الإبداع عنه بعد شيوعه، وهو حال العرب والمسلمين اليوم، فقد أخذهم التقليد غير الواعي للغرب، حتى انحدروا إلى هاوية اضمحلال العقول المبدعة، حتى إنها لا تظهر إلا إذا فارقت بيئة التقليد الآسنة، ولابد من دعوة للنهوض جديدة تجنب التقليد عنها في سيرها الحثيث لبناء نهضة مبدعة جديدة جديدة، تأخذ من الأمم الأخرى ما يعينها على الإبداع، ولا تقلدها بصورة تجعل التقليد غايتها، فحينما يعجب في بلادنا بمن يدعوهم إلى التقليد ويعتبرونه مبدعًا فذاك يعني أننا أمة تنحدر عما هي عليه من تخلف إلى حضيض يصعب معه النهوض أبداً، فمقلد المبدع لا يبدع وإنما يحاول أن يكون نسخة مقلدة من أخطائه لا من إبداعاته، والمقلدون بذكاء مضى زمانهم ولن يعود لهم زمان جديد، فبين التقليد والإبداع بون شاسع فانهضوا يا قومي بعيداً عن التقليد حتى للمبدعين، فهل تفعلون، هو ما أتمناه لكم، والله عز وجل ولي التوفيق يهديكم سبل الرشاد.