متى تستمر مثل هذه الفتاوى ومتى يفطن المنتسبون إلى العلم الشرعي فلا يجارون سائلاً لا يطلب الإجابة عما يجهل وإنما يريد بسؤاله أهدافاً أخرى العالم إذا سئل عن مسألة أن يستقصي من السائل عن الظرف والحال وهو واقع ما يسأل عنه، أم أنه فقط من باب التوقع، أو ما كان يقول عنه الفقهاء الأغلوطات.
فبعض من يستفتون أهل العلم لا يسألون عن ما يجهلون حكمه، وإنما يوصفون ما يريدون استصدار حكم عليه من عالم مخصوص بالصيغة التي تقوده إلى أن يقول ما يريدون، لغايات مخبوءة في صدورهم، لعلها من أردأ الغايات، وقد تكشف بعضها حينما وقعت بعض الفتن مثل فتنة الحرم المكي في بداية هذا القرن، فقد كان المقتحمون له يسألون عن المهدي اسمه وأوصافه، ليطبقوها على أحدهم، وقد كان ما ارادوا، فتأتي الإجابة على أسئلتهم وفق ما يريدون.
وكأنهم يصنعون هذه الأجوبة على ألسنة من سألوهم من المنتسبين إلى العلم الشرعي، وهم حتماً حينئذ مشاركون لمن سألوهم على هذه الصورة في الإثم إذا وقع بسببها ضرر على الناس، فإذا بلغ الأمر بالتصريح بحكم الكفر على معين والمطالبة بقتله، فإن السيل يبلغ الزبى، ويجب حينئذ على كل من له علم، يتقي الله به، أن يخاطب من أصدر الفتوى أن يتقي الله.
فالفتوى بكفر المعين تترتب عليها ردته المؤدية إلى قتله، وقد تغري الجاهل المتحمس إلى ارتكاب هذه الجريمة، أعني القتل ظناً بأنه ينتصر للدين، كما أن الحكم بكفر المعين لا تكون لمن يفتي حتى وإن ظننا أنه بلغ درجة الاجتهاد، فهو حكم دنيوي لا يصدر إلا عن محكمة، تتأنى في اصدار الحكم وتبحث عما يصرف الحكم عن ازهاق الروح ما أمكن.
وتتيح للمتهم بالردة أن يتراجع عبر مناقشته في الشبه التي دعته لما اعتبرناه منه كفراً قولا أو عملاً، اما الاعتقاد الذي تخفيه القلوب فلا يأخذ به صاحبه الا ان كان كفراً صريحاً يعلنه، وحكم الردة لايزال باب الاجتهاد فيه مفتوحاً، والاختلاف في جزئيات مسائله لا تزال قائمة، وقد سئل أحد المنتسبين إلى العلم الشرعي عن مقالين نشرا في صحفنا المحلية لكاتبين معروفين – لست هنا في معرض الدفاع عنهما، ولكني أخشى أن ينالهما بسبب تلك الفتوى ضرر بالغ.
فلم يكتف بما افتاه حول الكاتبين بل جاوزهما إلى كل العاملين في الصحف وجعلهم مشتركين معهم في الحكم وحاول التحريض عليهم، ونحمد الله أن مثل هذا التحريض لا يلتفت اليه، ولطف الله بنا ان جعل ولاية أمرنا فيمن يتقي الله فينا، وهذا آخر يوجه سؤالاً لعالم مكتوباً يقول فيه: ( ما قول فضيلتكم في الدعوة الى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية، وهو الفكر الذي يدعو الى الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي فيساوي بين المسلم والكافر بدعوى التعددية، ويجعل لكل فرد حريته الشخصية التي لا تخضع لقيود الشريعة كما زعموا.
ويحاد بعض الاحكام الشرعية التي تناقضه كالأحكام المتعلقة بالمرأة، وبالعلاقة مع الكفار أو بانكار المنكر أو احكام الجهاد الى اخر الأحكام التي يرى فيها مناقضة لليبرالية، وهل يجوز للمسلم أن يقول: أنا مسلم ليبرالي، وما نصيحتكم له ولأمثاله)، ولا ينطبق هذا التوصيف على أي ليبرالية في هذا العالم.
فهي ليبرالية لا تعيش الا في ذهن مبدعها، وهو هذا السائل الذي لم يعتمد في ما يقول على نقل علمي لافكار الليبرالية الغربية من مصادرها، ولا أحد في وطنه يقول بمثل هذا الهذيان، ولكنه الافتعال الذي لا يؤجر عليه صاحبه، ولكن المفتي المسؤول حكم ان في هذا ارتكاب عدة نواقض من نواقض الاسلام، وان على من قال انه مسلم ليبرالي أن يتوب الى الله من هذه الافكار.
ولا أحد أحق بالتوبة من السائل مخترعها، والعجيب أن المستفتى المسؤول لم يستفسر من السائل عن من يقول مثل هذا من الذين يقولون أنهم ليبراليون واين نص كلامهم المزعوم حتى يبني فتواه على واقع لا على خيال السائل والمعروف بأنه يفبرك لمن يريد توجيه التهم اليه أقوالاً لم تجر على قلمه أو لسانه.
وتجد آخر يتصل بعالم عبر التلفون واثناء بث مباشر من احدى القنوات التلفزيونية يسأله عن معرض الكتاب مشوهاً صورته وصورة المشرفين عليه بالادعاء الكاذب ان في المعرض كتباً تسب الله عز وجل والرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – ولم يسأله عن عناوين هذه الكتب التي فيها هذا السب المزعوم، ولا عن مؤلفيها، ولا عن دور النشر التي تعرضها.
وانما بنى على قول السائل وكأن ما تحدث عنه حقيقة واقعة، ووجه نصيحته للمشرفين على المعرض بأسلوب يدينهم وما سمحوا بشيء من هذا، فإلى متى تستمر مثل هذه الفتاوى بهذه الصورة، نرجو ان يفطن اليها المنتسبون الى العلم الشرعي فلا يجارون سائلاً لا يطلب الإجابة عن ما يجهل وانما يريد بسؤاله أهدافاً أخرى، فهل يفعلون هو ما نرجوه والله ولي التوفيق.