الفكر لا يمكن حجبه أو منعه

لعل العرب هم الأمة الوحيدة التي مورس عليها فرض القيود على ما يمتنع عقلاً أن يفرض عليه قيد ، فحرية التعبير مهما فرض عليها من القيود نظامية كانت أم غير نظامية إلا أن الكل سيجد الفرصة ليعبر عن مكونات ضميره، سواء أكان داخل بلاده أم خارجها، كذا العلم فليس من الأمور التي تتأثر بفرض القيود عليها، فنحن في المملكة مثلا حاولنا عقوداً أن نمحو من ذاكرة الناس شيئاً اسمه “الأشعرية معتقداً” وبقى الفكر الأشعري سائداً لا في خارج البلاد بل وفي داخلها أيضاً ، وكذا مذهب الاعتزال العقدي بل وحاولنا منع اي كتاب فيه من فكر المذهبين شيئاً ، وبقى الحال على ما هو عليه، وللمذاهب أهلها رغم الحرب الشديدة عليها، والأنكى أن يفكر أحد أن يمنع التفكير وهو نشاط ذهني لا يستطيع أن يمنع حدوثه ، وقد أدرك العقلاء هذا منذ أزمان خلت، خاصة علماؤنا المسلمون الذين ليردوا على مذاهب وأفكار يرون عدم صوابها كانوا يحررون أقوالهم أولاً، ويذكرون حججهم وأدلتهم بداية ، واذا أستوفوا ذلك ردوا عليها بما اعتقدوا أنه الصواب واثبتوه بالحجج والبراهين ما أمكنهم ذلك. وشربنا هذا المنهج منهم في مدرستنا المكية، فسمعنا من مشايخنا طرح أفكار المختلفين معهم أولاً وحججهم قبل الرد عليهم، ثم اذا تم بيان وجهة نظرهم طرحوا افكارهم وايدوها بحجج عقلية وشرعية، وبقينا على مذهبنا السني رغم ذلك كله، ولايزال يرن في أذني قولهم عند الاختلاف في الفروع: وقال سادتنا الأحناف، والقائل شافعي المذهب، قدم رأي مذهب مخالفه على مذهبه وساق أدلته، ليردف بعد ذلك بما يقوله أهل مذهبه وأدلتهم ، وتعايشت حينذاك الفرق والمذاهب دون احتراب فكري أشبه ما يكون بحرب المعارك العسكرية، سلاحه الذم والانتقاص، اذا لم يبلغً حد الشتم والسباب.
وهذا الذي يظهر بين المسلمين في عصورهم المتأخرة وعند ضعفهم العلمي، من عدم القبول للمختلف او المخالف، والحكم عليه بشتى التهم التي تمس دينه وعرضه لمجرد أنه اختلف راياً أو اجتهاداً، ورافق هذا تأخر علمي ظاهر في كل الميادين ورغم إدراكنا لهذه الحقيقة إلاّ أنه لايزال بيننا من يقصي المخالف له بل ويزدريه ، بل ويخرجه حيناً من دائرة الاسلام، والمسألة المختلف عليها فرعية لا تستحق كل هذا التشنج بل واصبح حال العامة أسوأ يتبادلون التفكير والتفسيق والتبديع إنسياقاً وراء ما يسمعونه في المواعظ والدروس في حلقات المساجد وحار العقلاء فيما يجري، فالأصل أن الخير ينتشر ويجد له أتباعاً بسهولة ، أما الباطل فهو زهوق بطبعه، لا يلبث ان يزول ، ما وجد من العلماء مناهضة له وعدم اعتراف به.
ولتحيا هذه الامة قوية ولو معنوياً وسعيدة فلابد لعقلائها أن يعملوا على كل ما يوحد كلمتها على الحق والذي هو متعدد بأصل الاجتهاد الذي شرعه الله للعلماء اذا غاب عنهم النص من الكتاب او السنة او الاجماع ، وهم يعلمون أن مثل هذا سائغ الاختلاف فيه ولهم منهج أصولي لذلك عبر اكثر قرونهم اتفقوا عليه ولم يخالفه العلماء منهم حقا.
وما ظهرت الكراهية بين المسلمين الا حينما ابتعدوا عن هذا المنهج وأصبحوا فرقاً وأحزاباً يقصي بعضها بعضاً، ولا يقبل حتى الاستماع إليه لا أن يحاوره فان وجد عنده حقاً قبله.
وهو ما أثار لدى المسلمين حروب الطوائف التي كانت أشد الحروب بينهم فتكاً ولا تتكرر إلا حينما تخيب المناهج العلمية، ويسود الجهل ويكثر المتعصبون المقلدون لبعضهم بعضا ، فهل نعي هذا في عصر أصبح فيه القيود على حرية التعبير والتفكير ومن ثم حجب العلم والفكر شيئاً من الماضي لم يعد له وجود في حاضرنا، وهو ما أرجو والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: