عندما عدتُ إلى الجامعة لتحضير رسالة جامعية؛ للحصول على درجة علمية بعد زمن طويل لتخرجي، والتحقتُ بقسم الفقه والأصول، الذي تخصصتُ فيه، ومارستُ الاطلاع عليه طالبًا وأستاذًا، لكني فوجئت بأن المقررات فيها كتبًا قد سبق لي دراستها بجدية، فاحترت هل التحق بدراسة لا تزيدني علمًا، وفجأة أُعلن عن شعبة جديدة في هذا القسم، فلمّا اطّلعت على منهجها في السنتين المنهجيتين قبل التخصص، رأيتُ أنها ستُدرَّس فيها علوم الاقتصاد، قبل إعداد البحث في الاقتصاد الإسلامي، ليتسنّى للملتحقين بالشعبة المقابلة أو المقارنة بين الاقتصاد كعلم، وبين الأحكام المتعلقة بالاقتصاد في الإسلام، فقررتُ الانضمام إلى الشعبة للحصول على معلومات جديدة في حقل لم أدرس علومه بعد، وأخذتُ اطّلع على الفكر الاقتصادي ورموزه في الغرب، فتعرَّفت على عالم بريطاني فيلسوف واقتصادي نابغة اسمه «جون ستيوارت ميل»، وُلد عام 1806م، وتُوفي عام 1873م، وقد نبغ صغيرًا بفضل والده «جيمس ميل»، الذي كان من كبار أهل العلم والمعرفة في زمانه، وقد تأثّر بفكر الفلاسفة الفرنسيون تأثرًا كبيرًا، فأنشأ ابنه في عزلة عن الأطفال في مثل سنّه، وعكف على تربيته تربية عقلانية، فتعلّم على يده الإغريقية، وهو في الخامسة من عمره، وتعلّم اللاتينية وهو في التاسعة، وفي الثانية عشرة درس أرسطو، ومنطق هوبز، وفي الثالثة عشرة قرأ مبادئ ريكاردو، فقد كان غذاؤه الفكري موجّهًا بعناية من قِبَل أبيه، واشتمل على خليط من العلم الطبيعي والآداب الكلاسيكية، فما بلغ الرابعة عشرة من عمره، إلاّ وكان له من المعرفة والاطلاع ما جعله -فيما بعد- أحد أبرز الفلاسفة والاقتصاديين في بريطانيا، وما بلغ السابعة عشرة إلاّ وهو في مستوى عقلي كرجل مكتمل العقل، وكان صافي الذهن، فصيحًا، بالغ الوقار، دونما أثر لخوفٍ أو غرور، اعتمد المنهج التجريبي وسيلة للبحث، والديمقراطية والمساواة منهجًا سياسيًّا، نشر خلال أربع عشرة سنة من المقالات والكُتب ما خلّد اسمه بين الفلاسفة العلماء، وكتابه (في الحرية) أعظم كتاب نُشر في فلسفة الحرية، رغم أن مقصوده في الأساس الحديث عن «الحرية الاقتصادية»، التي يقول عنها: (إن كل ما يُقيّد المنافسة الحرة هو الشر المطلق، وكل ما يُطلقها هو الخير العميم)، هو من روّاد الفلسفة الليبرالية، ومن أقواله: (إذا كان الناس أقزامًا، فلا يمكن إنجاز أشياء كثيرة)، وقوله: (لا أعتقد أنه يحق لأي مجتمع؛ إجبار آخر على أن يكون متحضرًا)، ومنها: (لا يمكننا أبدًا التأكد من أن الرأي الذي نحاول كبته؛ رأي خاطئ، وحتى لو كُنّا متأكدين، فكبته سيظل إثمًا)، وقد أعجبتُ بهذا الفيلسوف، ولا يزال كتابه عن الحرية قريبًا مني، أُردِّد النظر فيه بين الحين والآخر.