كل محاولات النخب السياسية في العالم لتبرير الكذب السياسي المبطن بالدعاية لحالات ممارستهم لكذب مفضوح، كالذي نراه اليوم لتبرير ما حدث في عالمنا الثالث، خاصة في منطقتنا المسماة بالشرق الأوسط، الذي تعرضت دوله لأكذوبة سياسية عظمى سُمِّيت بالربيع العربي.
وحتماً كلنا نعرف أن الربيع فترة النماء والازدهار بين فصول السنة، حيث تصبح الأرض حديقة غنَّاء بألوان الخضرة والزهور في كل مكان منذ دخول هذا الفصل وحتى خروجه.
وما حدث أثناء ما أسموه الربيع هو موات للأرض والعمارة وموت لآمال الإنسان وتطلعاته، ثم موت لبدنه في الغالب، وكله لا يتناسب مع ما يبثه الربيع من ألوان الحياة. والثورات البشرية نوعان: نوع مخطط له يقوم على أسس فلسفية، له قادتُه الذين خدموا هذه الفلسفة أزماناً كما حدث في بعض ثورات أوروبا، ونوع يدفع الناسَ إليه مظالمُ غير محتملة، وكلاهما لم يحدث في بلداننا العربية التي مر بها ما سُمِّي بالربيع، فلا فلسفة شاعت لثورة لها قادة مارست الاعتراض على الحكم أزماناً لتنجح في النهاية، ولا هي ثورة دفع إليها نظام ظالم، مارس من الظلم أبشعه، وإنما هي ثورة خُطط لها إعلامياً وسياسياً، وأُرسِلت الأموالُ لتمويلها، وأُغدِقت على أفراد لا علاقة لهم بفلسفة ثورة وليسوا من أهلها، وإنما هم مرتزقة ركبوا موجاتٍ مخططاً لها ملأت ساحاتٍ بفعل فاعل، حتى رأينا أن من كانوا خلالها نشطاء ليسوا ممن تضرروا بحكم ظالم. سألتُ يوماً أحدهم في بلد عربي ،قلت له: لم نعرفك من قبل ممن لهم فكر ثوري أو فكر سياسي حي، بل لم نرَك تشارك قط في الحياة العامة ، فكيف هبَّتْ عليك الثورةُ فجأة ؟!، فكان ردُّه : ولمَ أنا بالذات من يُوجَّه إليه هذا ؟، فغيري كثيرون قاموا بأدوار لا يحسنونها، دُرِّبوا عليها هناك بعيداً في بلدان ما كان الناس ليظنُّوا أن الذاهب إليها يُعدُّ ليشارك في ثورة ، وللأسف درَّبهم أناسٌ دُرِّبوا على ذلك بزمن ، فأصبحوا قادة تدريبٍ ، يُنفَقُ عليهم بسخاء ، وهذه الأكاديميات المشبوهة التي ذهب إليها شباب ليعودوا وكأنهم يحملون عداء لوطنهم لا ليقوموا بثورة على أنظمة فاسدة أو ظالمة، يحطِّمون كل مظاهر الحياة فيها. إنها صور من الفوضى لم تُعهد في أي ثورة إنسانية حدثت في هذا الكون، ونكتشف أن بين المحرضين عليها حكاماً هم من يستحقون أن يُثار عليهم لشدة ظلمهم لأبناء أوطانهم، وليست هذه الثورات سوى أسوأ لون من الكذب السياسي مرَّ بالبشرية حتى اليوم.