في خضم هذا الجدل الدائر حول الليبرالية وعلاقاتها بالدين , يسرني أن أشارك بتجلية هذه العلاقة بحسب نظرتي إلى الواقع , فأزعم أن الليبرالية لا موقف عدائي لها من الأديان , وهذا حتماً ليس انتصاراً لها ولا دفاعاً عنها , ولكنه إقرار حقيقة لابد لكل منصف أن يقررها , فالليبرالية في جوهرها اعتراف بالحقوق الفردية , والتي أهما أن يكون الإنسان حراً يملك ذاته , وأولى حرياته بالاعتبار حريته الدينية , يعتنق الدين الذي يريد , لا يخشى أن يكره على اعتناق دين , كما لا يخشى أن يكره على تركه إذا اعتنقه , ولهذا فجميع الدول التي فلسفتها ليبرالية تتعدد فيها الأديان وتحترم , وسواها من الأنظمة إما دينية ,
تفرض الإيمان بدين معين على رعاياها , وتمنع أن يكون لأحد منهم دين غيره , وقد يؤمن الناس ظاهراً بهذا الدين , ويبقون في الباطن على أديانهم التي اعتنقوها , وذلك يخلق نفاقاً صنعه الإكراه , وإما أنظمة تعادي سائر الأديان مثل الدول التي كانت فلسفتها اشتراكية علمية ( شيوعية ) .
ومعلوم بداهة أن الدين إذا كان إلهيا أوحي به إلى رسول هو في العوامل الأساسية لارتقاء الحياة , إذا ترك للناس حرية اعتناقه فعملوا بقيمه المثلى , ولكن الدين قد يتحول إلى أداة قمع إذا اكره الناس على اعتناقه وهم لم يقتنعوا به , وهو في هذه الحالة يتحول إلى معوق للانطلاق إلى حياة أفضل , فالتجربة الكنسية التي أدت إلى ظهور العلمانية في الغرب , أثبتت أن احتكار العلم بالدين , والادعاء أن فهمه ينحصر في فئة معينه جماعة أو طائفة ذات منهج محدد , مهما كانت التسميات هو لون كهنوت كالذي كانت تدعيه الكنسية وهم أسموا أنفسهم رجال دين فيها , حيث جعلوا الطريق الوحيد إلى حقائق الدين ما يقرونه فهماً له , فهم ظل الله على الأرض , يفسرون النصوص الدينية بل يحتكرونه , ويرسمون الطريق للوصول إلى الجنة الذي لا يرون غبرهم يستطيع عبوره إلا بواسطتهم , ولا يتحول الدين إلى هذا الكهنوت إلا ويصبح أداة قمع بيد هذه الفئة المحتكرة له .
وفي تاريخ المسلمين ظهرت صور لهذا الاحتكار , منها ما مارسته المعتزلة حينما آلت إليها السلطة الدينية برغبة من السلطة السياسية , ولم يرتضوا من الناس إلا أن يعتنقوا فهمهم للدين , ومن لم يقبل ناله الاضطهاد , ثم آل الأمر إلى أهل الأثر بعدهم فاحتكروا فهم الدين مثلهم وسلكوا مسلكهم , فاضطهدوا غيرهم , ولا يستقيم الأمر إلا إن قبل الناس تعدد الفهم لنصوص الدين , بحيث يحافظ على روحه , فيكون أداة ارتقاء بالحياة , ولا يتخذ وسيلة لتدميرها , فالناس بطبعهم خلقوا مختلفين , فالله عز وجل يقول : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) .
ومن حاول أن يصبهم في قالب واحد , ويدعي القدرة على أن يكرههم على فهمه للدين فهو يغالط نفسه ولن يستطيع هذا في ظل ظروف العصر , فهم إنما خلقوا لهذا الاختلاف ولا يزال باقٍ بينهم حتى تقوم الساعة .
ولا وسيلة لتجاوز هذا الاختلاف إلا التعايش في ظله , فحتى السيف الذي يدندن حول تسليطه على الأعناق دعاة الإكراه لن يزيل هذا الاختلاف , كما لم يزله في الماضي وعبر العصور , فإذا كان الاختلاف يجري بين المنتمين إلى دين واحد فاحتكار فهمه أخطر , لأن من يحتكره عبر منهج له مرسوم , وقد أوتي شيئا من السلطة يستطيع به أن يلغي فهم غيره سيجعل حياة أخوانه المختلف فهمهم عن فهمه يعيشون دوماً تحت سياط القمع , ولعل هذا ما قد يدعوهم للخروج عن سلطته ولو بالقوة , بل ولو بالسعي لإزاحته من الساحة بعد أن أشبعها استبداداً وإقصاءً , وهو ما تكرر و للأسف عبر الزمن لأصحاب الأيدلوجيات الدينية , التي حاول أصحابها فرض أفكارهم على الناس بشتى الطرق والوسائل المتاحة لهم .
والليبرالية فلسفة حياة وليست ديناً , يمكن الاستفادة من منهجها الذي نجح في الارتقاء في مجتمعات كثيرة متعددة الأديان والأعراق , حيث وفرت الحريات الأساسية لهم , وكفت أيدي الناس عن أن يلحق بعضهم أذى للبعض الآخر , ولم ننجح نحن في الشرق مثل هذا النجاح , رغم أننا نردد دوماً أن الإسلام دين التسامح , الذي عاشت في ظله الجماعات المختلفة الأديان والأعراق .
والإسلام حتماً لا يقبل حكومة دينية , بمعنى أن تحكم الأمة أحد يدعي حكمها باسم الله , هو الذي يفهم ما أوحي به إلى رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم , وتطبيقه هو الأمثل لنصوصه , فحكمه حكم الله , وعلى الجميع الطاعة المطلقة , فمثل هذا لا يحدث إلا عندما يذهب عن الإسلام تأثيره الحقيقي في العقول والقلوب , وعندما تشوه صورته حتى لا تكاد تعرفه , وإلا عندما يؤول أمره إلى من لا يفهم منه سوى القشور , والحديث الدائم عن أن الليبرالية فكر يناهض الأديان أو يحاربها إنما هو حديث خرافة , لا يكرره في أيامنا هذه إلا من لا يدرك شيئاً ذا قيمة من الفلسفة الليبرالية , ويغيب عنه أيضاً حقيقة الإسلام , ولم يطلع على مراحل تاريخ أهل الإسلام منذ العصور الأولى لظهوره وحتى اليوم .
والإسلام قد تكاثرت نصوصه تؤيد حرية المعتقد حيث يقول الله عز وجل : ( لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ومن شاء فليكفر انا اعتدنا للظالمين ناراً احاط بهم سرادقها وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً ) , وقال : ( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا وما أنا عليكم بوكيل ) لذا فإن مهمة الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم كانت البلاغ لا اكراه الناس على اعتناق الدين , فالله عز وجل يقول : ( فإن تولوا فإنما عليك البلاغ ) أما الهداية فإلى الله وحده , أليس الله بقوله لرسوله – عليه الصلاة والسلام : ( انك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء ) , بل ينفي عنه أن يكون على الخلق مصيطراً فيقول : ( لست عليهم بمصيطر ) ثن ينهه أن من تولى منهم وكفر فعقابه وحسابه على الله فيقول : ( إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر ) , ثم يؤكد الله عز وجل أن المرجع إليه والحساب عليه فيقول : ( إنا إلينا إيابهم ثم إنا علينا حسابهم ) , فلم يقاتل الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – قط ليكره الناس على قبول الإسلام واعتناقه , ولكنه قاتل من اعتدى عليه أو منعه أن يصل إلى الناس فيبلغهم رسالة ربه , وما أن كف الناس أيديهم عن كف يده عنهم , ومن يظن أنه أقدر من المبعوث للعالمين رحمة فقد وهم , فالحرية حتى في اعتناق الأديان هي صمام الأمان للإنسانية , فإن لم تكن واقعاً ممارساً في المجتمعات الإنسانية فإن الكل سيسعى لإكراه الناس على اعتناق دينه , وستجري على الأرض الدماء كما جرت عبر العصور في حروب دينية لا منتصر فيها إلا الجهل بالأديان كلها , وحتماً لن يكتب لأحد القدرة على أن يوحد الناس على ملة واحدة
أو حتى على مذهب واحد , جفت الأقلام وطويت الصحف فلا يزال الناس مختلفين والله خلقهم لذلك .
ويبقى أن لمن اقتنع بدينه أن يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة , وأن يجادل المختلف عنه دينياً بالتي هي أحسن , والإقناع يستلزم أدلة عقلية قوية تثبت الدعوى , فما أمر الله بسوى هذا أليس هو القائل : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )