المتطفلون على موائد الحوار

كان من أعلى العلوم أهمية عند الأقدمين من علماء الأمة الأفذاذ، «علم الجدال والمناظرة»، خاصة منهم من اضطر لمناظرة غير المسلمين، ممن يوجهون سهام النقد غير النزيه لهذا الدين، ليصرفوا الناس عن اعتناقه، وشاع الجدل والمناظرة في مسائل الفقه وأصوله عند المتقدمين في العلم فيها من المسلمين، وقد ترك الأقدمون تراثاً عظيمًا في هذا العلم وآدابه، وبحثوا فيما يؤهل العالم لاكتسابه. والجدل ظاهرة إنسانية، لأن الاختلاف بين البشر أمر بدهي وطبيعي، بل إن له وجوداً في غير الأجناس البشرية كالملائكة وإبليس، مما رصد لنا القرآن الكريم بعضه، وقيل إن من دوّن في الجدل علمًا هو أبو علي الطبري رحمه الله،

الشيخ عبدالله فراج الشريف

وأول من كتب فيه البزددي، ثم كثر التأليف فيه، وأول من كتب فيه من الفقهاء الشاسي، وأسباب انتشاره في حضارتنا الإسلامية تتعدد منها ما يعود إلى مجالس القصَّاص في المدن الإسلامية العريقة (الوعاظ)، فقد فتحت للناس المجال في تناول المشكلات الطارئة والرغبة في معرفة حكم الدين، ومنها مهاجمة اليهود والنصارى والدهريين وغيرهم من أصحاب الملل والنحل الأخرى للإسلام، فتصدى لهم العلماء لإبطال أقوالهم، ومنها ما استجد من طرق للبحث في بعض الموضوعات الشديدة الغموض كالغيبيات، التي كانت ولا تزال مزالق لبعض الباحثين، وميدانًا يتفاضل فيها المتجادلون، وكذا ميل العقول إلى نوع من الترف العقلي بالبحث فيها، ولا يقتصر الأمر على هذه الأسباب، فشيوع الغلو والتشدد في أزمان متأخرة ولّد نقيضة من التحلل من أحكام الدين، والبعد عن مقاصده، مما ولد جدلاً عقيمًا لا ينتهي، ويقف أهل الوسطية والاعتدال بين الفريقين يحفظون للأمة دينها، ويدفعون عن الدين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، خاصة في العصور التي شاع فيها الجهل بالدين، وانتحل العلم به كل جاهل وجد في الحديث عنه له مصلحة، إما رغبة في التكسب به استزادة من رياش الدنيا، أو طموحات أن يضفي عليه من كان مثله من الألقاب ما يظن أنه بها تفتح الأبواب فيؤسس له بذلك مكانة بين الناس، ولم يعلم أن فاقد الشيء لا يمكنه أن يعطيه لغيره، فحتى بسطاء الناس على مرّ الزمان سيكتشفون جهله، وإن درأه عنهم بشتى المظاهر، والتي لا تستر أحداً عند التمحيص، فها نحن اليوم نسمع من هؤلاء على شاشات الفضائيات ألوانًا من الجهل يضحك منهم العامي قبل العالم، وأول ما يكشفهم سوء أدبهم عند الحوار، فهم يظنون أن رفع الصوت ومقاطعة المحاور، وإساءة الظن به، ومحاكمة نياته، مما هو تنكب للطريق السوي في الحوار والالتزام بآدابه، مما يجعلنا في أمس الحاجة إلى هذا العلم وآدابه، وحبذا لو أن المعاهد والكليات الدينية قررت على طلابها هذا العلم، ومصادره متوافرة لها اليوم، سواء ما كان موروثا عن الأقدمين، أو ما كتبه المحدثون، ففي مكتبتي من كتب هذا العلم الموروث عن علمائنا الأقدمين أكثر من عشرة كتب للإمام الطوفي، والإمام الجويني، وابن الوزير اليماني، والشيرازي، وطاش كبرى زاده، والباجي، ومثلها للمحدثين من علماء الأمة في هذا العصر، كالإمام محمد أبو زهرة، وللشيخ محمد محي الدين عبدالحميد.
وقد كتب شيخنا عبدالله بن بيه رسالة في هذا الباب عن أدب الاختلاف، وللشيخ عبدالرحمن السعدي-رحمه الله- كتاب في المناظرات الفقهية، وللأستاذ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد محاضرة طبعت في كتاب عن أدب الاختلاف أيضًا، وقد أصدرت الندوة العالمية للشباب الإسلامي قبل أعوام نشرة عن أصول وآداب الحوار في الإسلام، وهي مهمة جدًا، ولكن فيما يظهر أن شبابنا المتصدين للدعوة، ولم يتأهل بعضهم لذلك قط، لا يعلمون شيئًا عن هذا التراث، ولم يقرأوا في هذا الباب سطرًا واحدًا، لذا فهم يرسمون للحوار في بلادنا أسوأ صورة، فلعلهم يعودون إلى الحق فيلتزمون الآداب، فهو ما نرجو لهم، والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

لا حياة إلا بطاعة الله

الحياة في الدنيا لا يمكن أن تكون قوية إلا مع الطاعة، فالطاعة هي ما تجعل …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: