لاشك أن نزول الغيث لمن يعيش في بلد كبلادنا مصدر فرحة وابتهاج، فنحن في وطن يعطش، والمياه تحيطه من الغرب والشرق، فالمياه العذبة الصالحة للشرب فيه نادرة، يحتويها باطن الأرض مما يتسرب إليه من أمطار قل أن تهطل على ربوع البلاد، وسيول تجري حين نزول الغيث على أرضها أنهارا، لهذا تربّينا على الفرح بنزول المطر، نخرج إليه نتلقاه بأبداننا، وإذا انقطع عنا استغثنا الله أن ينزله علينا، رحمة لنا ولجمادنا وحيواناتنا، وظل هذا آماداً طويلة، ترسخت ثقافة الفرح به في أغوار نفوسنا، وكنا من قبل نبني منازلنا بالحجر والطين ونسقفها بالخشب، ولكنا بها سعداء وفيها آمنون، قل أن يسقط منها عدد بفعل الأمطار، تأتي الأمطار فنزيد سقوفها طينا حتى لا يتسرب منها الماء إلينا، ويمضي حالنا هنيئا بفرحنا بالغيث يهطل.
وشاء الله أن تتغير أحوالنا، وتتحدث مدننا، ونبني منازلنا بالأسمنت والحديد، وتشيع مخططاتنا في مجاري السيول، ونبني ونحدث وننسى أن نصنع مصارف الأمطار والسيول، وتأتي الأمطار؛ ورغم ندرتها فتجرف في طريقها الكثير مما فرحنا به، فتدخل المياه دورنا ضيوفا أعزة علينا تتلف أثاث بيوتنا وقد تغتال بعض أفراد أسرنا، وفي الطرقات تتلف سياراتنا وتتجمع المياه في شوارعنا حتى لا نستطيع فيها سيراً.
ويشتد الأمر علينا حيناً، فيكون المفقود منا في الأمطار أعداد تتزايد ومعها تبتلع حجرات الكشف على مجارير مجاري مدننا من نبكيهم كلما سقط أحدهم فيها لحقه آخر.
وتنقلب الأفراح بالغيث أحزانا وينتاب الكثيرين منا الخوف إذا انتشرت السحب في السماء، واستحضر صورا من كارثة حلت ببعض أهله، وترى الناس حين هطول الأمطار سراعا عجلى يسابقون الزمن ليصلوا إلى ما يحتمون به من أخطار سبق لهم أن وجدوا فيها ونجوا بأعجوبة، تبدل الحال وتغير الزمان، وأصبح الماضي مع الأفراح صورا باهتة يتذكرها كبار السن من أمثالي.
ورغم أن هذا التغير طرأ من سنوات عدة، فلا يزال الوضع على ما هو عليه لم يتغير، رغم ما قيل عن مشاريع لتصريف مياه الأمطار والسيول والمجاري، وما أعلن عنه من رصد أموال وميزانيات لذلك، إلا أن شيئا من هذا لم يحدث ولم يتغير الوضع.
وظلت مدننا أو قل غالبها تنتظر رأفة بها وبسكانها مما يعانون من شبكات مجاري لم تكتمل وشبكات تصريف مياه لم تتم، رغم أننا نعلم أن الأموال لم تنقصنا قط، ولا أظن أن ليس لدينا كفاءات وطنية يعتمد عليها للتغيير نحو الأفضل، ولا أحد يدرك الأسباب الحقيقية وراء هذا الأمر حتى يومنا هذا.
وفي جدة منذ سنوات الأوضاع لم تتغير، والمبررات تتكاثر والمسؤول عن الوضع يتغير مرة بعد مرة، وها هي الأمانة تتخلى عن دورها لأرامكو، والوضع لا يزال كما هو، وما مر بنا في الأسبوع الماضي يبين عن هذا بوضوح، والخشية إن استمر الوضع على ما هو عليه الآن، وتزايدت الأمطار وتكررت أن يحدث ما حدث في الماضي، ولا ينفع حينئذ الندم.
إن مواجهة المشكلات يحتاج إلى خطط علمية مبنية على أسس واضحة تعلن للناس بشفافية تامة، فهم يستحقون أن يطمئنهم المسؤولون على مدينتهم وما تتعرض له سواء بسبب الأمطار بين الحين والآخر، أو بسبب أغطية غرف المجاري السيئة الصنع، والتي نتج عنها وفيات، وحتى اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال لا يزال الحال على ما هو عليه، ولم يعلن بعد عن نتائج التحقيق في هذه الوفيات بسبب المجاري أو بسبب الماس الكهربائي أثناء المطر والذي توفى على أثره أحد الشباب.
إننا إذا تأخرنا في إعلان نتائج التحقيق في هذه الوفيات، فإننا نوحي للناس أن كل حادثة تقع ستكرر فيما بعد، ولا أظن أن هذا يرضي المسؤولين.
فيجب أن تكون غايتنا جميعا أن ندرأ الأخطار عنا أيا كان مصدرها بعمل جاد مخلص، سواء ربحنا من وراء قيامنا بهذا العمل أو لم نربح، فالعمل للوطن وأهله أثمن من كل ربح مادي أو حتى معنوي؛ من جاهٍ أو شهرة أو ما شابه ذلك، ولو توافر هذا عندنا جميعا، فأنا على يقين أن جل مشكلاتنا سوف تتقلّص وحتى تنتهي.
فالعمل بإخلاص للدين والدنيا هو المبدأ الذي يرتفع به الناس، ويشار إليهم بالبنان بسببه، لا ما يظنه كثير من الخلق ممن يتعلّقون بالزيف صناعة ثم سلوكا، ثم ترويجا له وبعداً عن الواقع، حمانا الله من كل سوء، وأمنا في وطننا، إنه سميع يجيب الدعاء.