في كتاب الله آية تدل دلالة واضحة على أن الإسلام دين وسط، ونعت الله أمته بالأمة الوسط فقال الله عز وجل: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، وقال المفسرون: إنهم متوسطون في الدين بين مفرط وغال ومقصر، فهم لم يغلوا في دينهم كما غلت النصارى فجعلت لله ابنًا وإلهًا ولم يقصروا كتقصير اليهود فقتلوا الأنبياء، وبدلوا الكتب المنزلة، وهم وسطا لا يتبعون تشددات اليهود وأحبارهم فيها ولا تهاون النصارى وتفريطهم، والزيادة على المطلوب إفراط، والنقص عنه تفريط، وكل منهما ميل عن الجادة القويمة، فالخيرية هي الوسط بين طرفي الأمر، وهو معنى قول الله عزوجل: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، فكانت هذه الأمة خير الناس للناس، وقد ظل المسلمون حقًا الأمة الوسط التي عايشت الأمم، فعاش في كنفها كل الأمم الأخرى ولم تضار أبدًا، وهذه الوسطية جاء الإبلاغ بها حين تطلع رسول الله إلى قبلته أن تكون إلى الكعبة فقد جاء عقب هذه الآية قول الله عز وجل: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره)، وهذه الوسطية التي جعلت من هذه الأمة الأمة التي تشهد لرسول الله عليهم صلواته وسلامه أنهم بلغوا رسالات ربهم، فقد جاءت عقبهم وعلمت رسالاتهم فشهدت لهم بأداء الأمانة، وستبقى هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة الأمة الوسط بين غلو الغالي وتفريط المتساهلين، يحمل العلم فيها عدوله كما جاء في الحديث (يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عُدولُه ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، فقد بعث الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الدين الحنيف، وتعهد بحفظه حتى تقوم الساعة، ليبقى صلة بالله رب العالمين بهذه الوسطية التي تجعل له قبولًا عند الناس، ولا يزالون يعتنقونه في كل عصر من حين ظهوره وحتى اليوم وإلى ما شاء الله، حتى في أحلك الظروف التي مر بها وحورب من كثير من الأمم، إلا أنها في النهاية انضمت لمعتنقيه، وأما أن يفهم من الوسطية أن يتخلى المسلم عن أحكام دينه ليقال عنه متسامح فهذا ليس وسطية بل تفريط فيما شرع له من الأحكام ونحن نواجه في هذا الزمان طرفين كل منهما نقيض الآخر، الأول لا يرى في وسطية الإسلام إلا مزيدًا من الغلو، الذي أورث الأمة فئات من الغلاة شوهوا صورتها، وأورثوها الكثير من المتاعب، وما نراه من هذه الجماعات المتطرفة المستحلة للدماء المعتدية على الأعراض والأموال ما هو نتاج لهذا الغلو الذي حرمه الله ونهى عنه، والثاني لا يرى في وسطية الدين إلا أن يتخلى عنه أهله ويتبعوا شذاذ الفكر من خلق الله ليسود أرض المسلمين فساد يمحو كل أثر للدين، وبجعل هذه الجماعات المطالبة بزعمهم بحقوق الإنسان أن تدعوا المسلمين للتحلل من أحكام دينهم، فلا ترى فيما شرع الله من العقوبات إلا قسوة يجب أن تترك، وكل حكم للحفاظ على الدين لون قيد يجب التخلص منه، وهي وللأسف تجد من بين المسلمين من يعينها على ما تطلب فينضم إلى مطالبها دون خجل من الله أو الناس، فاللهم احفظ هذا الدين الوسط، وقوِّ أهله ليحافظوا عليه ويمنعوا العدوان عليه، فأنت ربنا أهل ذلك والقادر عليه.
شاهد أيضاً
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …