أهل كل وطن هم أدرى بمصالحهم, وترك الأمر لهم يختلفون ويتفقون خيرٌ من الوقوف مع فئة منهم خاصة لو كانت منحرفة عن الدين.
الوطنية بكل بساطة تعني أمرين لا ثالث لهما:
الأول: الانتماء إلى وطن تقام عليه دولة, لها حدودها السياسية, ولها شعبها المتجانس غالبًا, يتحدثون لغة واحدة, ولهم تاريخ واحد مشترك, أمّا الدين ففي مختلف بلدان العالم إلاّ ما قل يتنوع المنتمون إلى البلد الواحد إلى أديان مختلفة,ولكن بينهم عهد أن يتعايشوا فيه, ولضمان الاخلاص لهذا الوطن يعلّم الناس أولادهم معنى الوطنية, وتفرض الدول في مدارس الأبناء تربية وطنية تجمع السكان على محبة هذا الوطن, وصونه والدفاع عنه بالنفس والمال وكل ما يملك المواطن, فيتحد سكانه في وجه أي معتدٍ عليه, ولا يرضون بعزتهم وكرامتهم واستقلال وطنهم بديلًا, مخلصون في العمل له, ويدفعون عنه الأذى وهو الأمر الثاني الذي إن عُدم عند أي مواطني دولة وقعت فريسة الأطماع داخلية كانت أو خارجية, وحالة الضعف هذه تغري الكثيرين أن يفرقوا بين أهلها بأساليب تجعلهم في النهاية أعداء لبعضهم, وقد تجد بينهم مَن تستطيع استمالته لتقطع أوصال ذلك الوطن, ولسنا في حاجة أن نؤكد أن القوى العالمية التي تسعى للسيطرة على العالم, ولها أدواتها الداخلية التي تفعل عن طريقها أسوأ الأدوار في الاعتداء على الشعوب, وقد كان الاستعمار القديم يهاجم البلدان الضعيفة بجيوش لا قِبل لها بها, ثم يستعمرها زمنًا حتى لا يبقى من مواردها شيء أبدًا, وقد ساعدت هذه القوى بعض الحكام المستبدين, فظلموا شعوبهم, وتركوها فريسة لمن يستغل الوضع المتردي لها, فإذا انتفض شعب ضد الاستبداد, أظهروا له التأييد ليزرعوا في مقاعد الحكم من يساعدهم على تفتيت هذه الأوطان, رأينا هذا يحدث بوضوح في دول ما سمّيناه الربيع العربي, والتي استولى على الحكم فيها من لا يؤمنون بالتغيير, وأدبياتهم بوضوح تناهضه, ولكنهم دفعوا إلى أن يتظاهروا بمطالب الناس, حتى إذا تمكنوا من الحكم أظهروا الوجه الآخر القبيح, وبدأت المظالم تتوالى, وسلاح الانتقام يبرز إلى الوجود, وأصبحت شكوى الناس تتصاعد من مظالم أشد, وأطلقت الألسنة بتكفير كل معارض لهؤلاء, وأصبح الفتوى بكفر فلان وعلان تصريحًا تتردد على المنابر الإعلامية هناك, يصاحبها سباب وشتائم من نوع ما يتردد في تلك البيئات التي لا تعرف علمًا, ولا تلتزم خلقًا, ومن يفعل مثل هذا ولا يهتز له طرف, مهما حاول الادّعاء بأنه يدعو إلى الدّين وأنه يريد أن يطبق الشريعة لا يمكن للمؤمنين العقلاء أن يصدقوه, فما علم قط ان هذا الدّين الحنيف يمكن أن يُدعى إليه, أو يُصان بما ناقض أحكامه وآدابه, ومَن ادّعى هذا فهو إمّا مجنون فاقد العقل, أو مجرم لا يعنيه سوى أن يصل إلى رغائبه ولو ارتكب أكبر المعاصي, والمؤيد لمنهج كهذا يخدع نفسه, ويريد أن يخادع الناس ليقنعهم بما لا يمكن الاقتناع به أبدًا, وهذا هو ما يحدث هذه الأيام بعد ما حدث في مصر, أعاد ذكرى إحدى تلك الجماعات المناهضة للوطنية, حيث هاجم أفراد منها الوطنية هجومًا عنيفًا حتى دعاها كفرًا بالإسلام, ورأى أنها سبب فرقة المسلمين في لون تفكير سطحي, فما اتحد المسلمون في دولة واحدة منذ زمن طويل, ولا علاقة من قريب أو بعيد بالافتراق بينهم بوطنياتهم, والغريب أننا هنا مرآة عاكسة لما يجري خارج حدود بلادنا, فمنذ حدث ما حدث في مصر, وأدى إلى أن وصل إلى سدّة الحكم فيها لأول مرة في التاريخ هذه الجماعة السريّة, وجدنا مؤيدين لها عندنا كثر بانفعال شديد, مظهرين الفرح بقدومهم, ولمّا اعترض العقلاء منّا ممّن خبروا هذه الجماعة البائسة, التي عندما أوت إلى بلادنا في الستينيات, لم تلبث إلاّ قليلًا حتى كان جزاؤنا منهم إلاَّ الأذى عندما عملوا في مدارسنا وجامعاتنا, أو عندما غادروا بلادنا, وكانوا يتحدثون عنا وعن بلادنا بأسوأ ما تحدث به عدو لنا, ولما نبذهم شعبهم وتظاهر من أجل الخلاص منهم, انبرى الكثيرون هنا للدفاع عنهم, حتى رأوا أن من يعارضهم إنما يعارض الإسلام, ولا يرضى به دينًا, وسمعنا من أنباء الرؤيا ما تجعل رئيسهم بديلًا للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسمعنا من ذلك ألوانًا من الهوس لا تصدر عن عاقل, وأهل كل وطن هم أدرى بمصالحهم, يسعون لتحقيقها بكل جهدهم, وترك الأمر لهم يختلفون ويتفقون, خيرٌ من الوقوف مع فئة منهم خاصة إذا كانت منحرفة عن الدّين, ولا تعرف مصالح الدنيا. والوطنية الحقة تلزمنا أن ننصح إخواننا أن يكونوا عادلين مع أنفسهم وغيرهم. فهل يفعلون؟ هو ما نرجو, والله ولي التوفيق.