بأي شيء تكتسب الخبرة؟!

ها هي تلك القنوات تساعد في التزييف بتقديمها خبراء في كل مجال لا يحملون من المعرفة أو الخبرة شيئًا، فتعطيهم ألقابًا لا يستحقونها

في زماننا يطلقون الألقاب في الإعلام على أشخاص وهم لا يستحقونها, فأنت تقّلب القنوات الفضائية فتجد في إحداها أحدهم يتحدث مثلا عن الجماعات المسماة إٍسلامية, وقد عرفته بأنه الخبير فيها, وتتذكر أن هذا الشخص بعيد كل البعد عن معرفة أو ممارسة لهذه الجماعات أو معها, ولكنه مع ذلك يتحدث عنها وكأنه قد حصل على درجة علمية في فكر هذه الجماعات, وعاشر رواد هذا الفكر أو كان أحد أعضائها, وتجد قناة أخرى تقدم آخر ليتحدث عن السياسة العالمية, وتعرفه بأنه الخبير في هذه السياسة, وهو صحفي مغمور لم يدرس السياسة, ولا مارس وظيفة سياسية, بل وتجد شابا صغير السن تقدمه قناة أنه الخبير في الثورات وعمره الصغير لا يتيح له تحصيل معرفة بالثورات أو ممارستها, حتى أصبح ادعاء الخبرة وظيفة من لا وظيفة له, فالعسكري الذي لم يمارس العمل العسكري قط, ولا دخل حربا في أي وقت من حياته حتى تقاعد, أصبح خبيرا عسكريا وخبيرا استراتيجيا, ويظهر بهذه الصفة على كثير من القنوات وتستمع إليه, فلا تحصل على أي شيء مفيد, والخبرة ولا شك لا تكتسب بالادعاء فقط بل لا تكتسب إلا بأمرين أساسيين, الأول منهما تخصص علمي في المجال الذي أصبح فيه خبيرا, فالخبير السياسي لابد له من دراسات متعمقة في علوم السياسة وتخصص رفيع فيها لحصوله على أعلى الشهادات في هذا المجال ثم ممارسة سياسية طويلة, أضفت عليها لقب الخبير, واعترف له نظراؤه في التخصص بتلك الخبرة, وثانيهما: أن تكون له مؤلفات في مجال تخصصه تلفت النظر إليه, وهذا هو ما لم يحصل عليه أي من هؤلاء الذين تنعتهم فضائياتنا العربية بأنهم خبراء, وهي حتى يومنا هذا مقلدة لقنوات غربية, لم نرها تقدم برنامجا قط إلا وله أصل في قناة غربية, وهو وللأٍسف في جل الأمثلة تقليد مشوه لم يرتق إلى أن يكون مثل البرنامج الأصل, فحينما ظهرت القنوات الإخبارية والسياسية كانت تقليدا لقناة bbc البريطانية, فأولها قناة الجزيرة والتي لم تكتف بالتقليد حتى أنها وظفت كل العاملين في تلك القناة عندما توقفت لخلاف بينها وبين أوربت التي بثتها مع مجموعتها, وهذا التوظيف لم يكن كافيا لنقل الخبرة الإعلامية, فهؤلاء لم يتموا تدريباتها التي كانت تجريها لهم هذه القناة, التي اكتسبت خبرتها من عمل إعلامي طويل الأمد في الإذاعة البريطانية منذ كانت تسمى إذاعة الشرق الأدنى وحتى نشوء القناة التلفزيونية البريطانية, والتي حملت نفس المسمى BBC, وهي قناة محترفة, وإن كان لها أخطاء لخدمتها أغراض الدولة التي انشأتها ولكنها الأفضل عند المقارنة بينها وبين ما قلدها من قنواتنا العربية, وبعد قناة الجزيرة انفرط عقد التقليد وأصبح لدينا العديد من القنوات الإخبارية والسياسية, تقدم لنا ما تقدمه القناة الأولى نشوءا, والتي قدمت لنا أسوأ برنامج حواري أسمته «الاتجاه المعاكس» والذي شوه سمعة العرب, وأظهرهم قوما متخلفين لا يحسنون حوارا, لما تحمله ألسنتهم خلاله من بذاءات تبلغ أقصى مدى في سوء الأدب, ولم يقدم هذا البرنامج قط معلومات صحيحة لمشاهديه, وظل يتدهور أكثر يوما بعد يوم, ورأينا له تقليدا في قنوات أخرى يضرب أحدهم محاوره بالكرسي, وآخر يطارده بنعله, وثالث يقذف الماء في وجهه, فقدموا للناس أسوأ ثقافة للحوار, أفسدت أذواق المتابعين, ورأيت العامة ينهجون نفس النهج إذا تحاوروا, وأصبح يعجبهم صراع الديكة هذا, وأصبحت هذه القنوات تقدم للناس اسوأ النماذج فكرا وأدبا ولم تنجح قط في أن تجعل الناس ديمقراطيين كما كانت تزعم, وها هي تساعد في التزييف بتقديمها خبراء في كل مجال لا يحملون من المعرفة أو الخبرة شيئًا, بتقديمها دومًا من تعطيهم ألقابًا لا يستحقونها, وفي هذا السياق فإن العرب في تخلفهم يضربون المثل لكل المتخلفين في العالم, فحتى مجال الإعلام لم يستطيعوا فيه أن ينافسوا, ومن نجحوا فيه رحلوا بعيدا وهم اليوم يخدمون في قنوات عالمية, كما رحل المبدعون في كل مجال عن ديارهم, لأنهم لم يجدوا فيها ما يشجعهم على الإبداع ويحميهم, ووجدوا هذا في الغرب, فهاجرت من بلداننا العربية أذكى العقول, ورغم إدراكنا لهذا وتحدث الكثيرين منا بحرقة عنه, إلا أن أحدا لم يستطع أن يوجد من الأنظمة ما يمنع مثل هذه الهجرة, ليبقى في بلداننا من المبدعين من ينهضون بها لتدخل الساحة العالمية منافسة في شتى المجالات, خاصة مجالات العلوم التقنية والعلوم الإنسانية, ونحن نعيش فيهما عالة على الغرب ولا نخجل من ذلك أبدا, ولا أحد يعي أن هذا هو الهزيمة الحقيقية, التي جعلت العرب اليوم في ذيل الأمم, حتى أصاب الشعوب العربية إحباط ألاّ أمل لها في بلوغ التقدم, الذي بلغته أمم كثيرة في هذا العالم, وما لم يكن لدينا تعليم يفرز لنا مبدعين في سائر المجالات وأن نعاملهم المعاملة التي ستبقيهم في أوطانهم يعملون لها ويحققون لها تقدما تنافس به الأمم في هذا العصر, فلن ننافس الأمم بتاريخنا الذي مضى وما حققناه فيه, فهل نعي هذا هو ما أرجو والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: