“بدر الكبرى ونصر الفئة القليلة”

عندما نستعيد ذكرى هذه المعركة الفاصلة في تاريخنا, فإنما نعلن أن النصر مع الحق

في حياة كل أمة حدث عظيم أثّر على وضعها فظلّت تذكره عبر تاريخها الطويل, وأعظم الأحداث في حياة الأمة المسلمة, وفي بدء نشأة كيان دولتها كانت هذه الغزوة التي وقعت في مكان خارج المدينة المنورة, لا يجهله أحد اليوم من المسلمين, فهو اليوم مدينة صغيرة قرب المدينة المنورة, كان الناس يمرون بها وهم ذاهبون إلى المدينة على الطريق القديم يزورون موضع المعركة فيستعيدون الحدث ويعتبرون, ثم يزورون شهداء المعركة, الذين خُلدت أسماؤهم عبر الزمان, وكانوا نجومًا في حياة الأمة, هم سادات بذلوا أعز وأثمن ما يملكون أرواحهم التي حملوها على أكفهم ليعبد الخلقُ خالقهم على مر الزمان, هم وإخوانهم الذين قاتلوا معهم وهم جميعًا لم يتجاوزوا ثلاثمائة وسبعة عشر رجلاً, جلهم من الأنصار, والذين قال عنهم سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يناشد ربه أن ينجز له وعده بالنصر: (اللهم إنجز لي ما وعدتني, اللهم آت ما وعدتني, اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُبعد في الأرض), وما كان متصوَّرًا أبدًا بل هو المستحيل أن يهزم هذا الجيش الذي يقوده سيد الخلق -صلوات الله وسلامه عليه- لأنه لو هُزم لما بقي في هذه الدنيا من يعبد الله على دين صحيح, وهو المستحيل لأن الله قضى وقدّر أن يبقى هذا الدين الحنيف خالدًا حتى تقوم الساعة, ومَن يتصور أنه يمكن أن يغيب هذا الدين عن هذا العالم هو واهم لا يدرك الحقائق, وسيبقى حملته الذين يدعون إليه ويجوبون كل أرجاء العالم ويثق بهم الناس فيؤمنون ويقتدون بهم ما دامت هذه الحياة, فكم قد تعرض الإسلام وأهله من العدوان ممن يرغب لو استطاع أن يستأصلهم من هذه الدنيا, ولكن الحملات تفشل, وما أن يمضي زمن قليل حتى يعود الإسلام قويّاً كما كان قويّاً بدعاته الذين لا يحملون سلاحًا, ولكنهم يقدمون سلوكًا ينطبق على أحكام هذا الدين وقيمه ومقاصده, فيعجب بهم الخلق فيؤمنون فتزداد أعداد المعتنقين له في أرجاء المعمورة.
كانت بدر أول معركة للإسلام فاصلة, ولم تكن هي المقصودة, فعندما سمع سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي سفيان مقبلاً من الشام في تجارة لقريش, ندب المسلمين إليه وقال لهم: (هذه عير قريش, فيها أموالهم فأخرجوا إليهم لعل الله ينفلكموها), وكانت قريش من قبل استولت على أموال المهاجرين التي تركوها بمكة, فأراد الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن تكون هذه الأموال في قافلة قريش سدادًا لها, ولكنّ أبا سفيان لما علم بالخطر المحدق بقافلته أرسل أحد رجاله إلى مكة يستنجد بقريش, فوصل رسوله إلى مكة يقول: (يا معشر قريش اللطيمة.. اللطيمة, أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه لا أرى أن تدركوها.. الغوث.. الغوث ونجا أبو سفيان بقافلته حينما سلك طريق الساحل بعيدًا عن المدينة, ولكن استغاثته وصلت إلى مشركي قريش لتخرج في جمع بلغ ألفًا وثلثمائة محارب, معهم مائة فارس وإبل كثيرة, وسلاح كثير تذبح كل يوم عددًا من الابل, ويشربون الخمر, ويستمعون للقيان, والمسلمون على قلة في العدد والعدة, ليس معهم سوى فرسين وسبعين بعيرًا يتعاقب على الركوب عليها الرجلان والثلاثة على بعير, ولكن النصر إنما يكون من عند الله, ولمن استعد له وهو لا يهاب الموت لأنه على الحق, جاءه المعتدون يريدون غزو أرضه فلقيهم بعيدًا عنها, فكانت المعركة حاسمة أخبرهم سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بمصارع القوم وكأنهم يرونها, وقد خرج إلى القتال صناديد المشركين, فأمد الله عباده بالمعجزات, فما أن هابوا القتال حينما رأوا الكثرة, فجعل الله الطمأنينة تسرى إلى نفوسهم حتى أصابهم النعاس حتى يسقط السيف من أحدهم ويلتقطه, ولكن الله يعينهم أليس يقول ربنا عز وجل: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) وما جعل ذلك لهم إلاّ لتطمئن قلوبهم, فقد استعدوا للمعركة رغم المفاجأة, وشاورهم سيدهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في الأمر ألم ينزل منزلاً, رآه صحبه لا يكون إلاّ إن كان بأمر من الله, أمّا إن كان الأمر أمر الرأي والحرب والمكيدة فلهم رأي آخر, يوافقهم سيدي الرسول عليه الصلاة والسلام عليه, فكانوا في أعلى وادي بدر يلون الآبار ذات الماء, ويغورون ما عداها, ويكون بينها وبين العدو يشربون ولا يشرب العدو, وجعل الله للمحاربين منهم القوة في قتال العدو حتى كانت سيرهم القتالية تدرس, وخطة القتال في بدر كانت من أسباب النصر في هذه المعركة الفاصلة, وقد كان سيدنا رسول الله وقد أعدوا له عريشًا يشرف على المعركة ويحرض أصحابه (جنوده) على القتال, ويعدهم الجنة حتى أن عمير بن الحمام الأنصاري سمع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وكان يأكل ثمرات بيده قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه الحياة طويلة, ثم أخذ سيفه وقاتل حتى قتل, إننا عندما نستعيد ذكرى هذه المعركة الفاصلة في تاريخنا فإنما نعلن لشبابنا أن النصر مع الحق حتى ولو كان المقاتلون أقل عددًا وعدة, لنستعيد مجد ديننا وأمتنا, ونحمي بلادنا, وهو ما نرجو, والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: