لماذا يصر هؤلاء الوعاظ على تعطيل مشروعات الوطن، لا لشيء إلاّ ليعلنوا رفضهم، وليس مهمًّا أن يعودوا عنه بعد إرهاق الوطن؟!
لا أظن أحدًا يجهل منطق الدولة، فلا شك أن رئيس الدولة، ووزراءه، ومستشاريه، وموظفي الجهاز الحكومي يعملون لرقي الوطن، وتحقيق مصالحه ومصالح المواطنين الذين يعيشون فيه.
فالدولة لها مهمّة عظيمة، ولإنجاز مهمّتها فإنها تعمل وسط عالم من حولها، تربطها به معاهدات، واتفاقات مهمّة، ولا خيار لها إلاّ الالتزام بها، ولها نظم إن لم يحترمها العاملون على شأنها، فلن يحترمها أحد، فهي دومًا مشغولة بمهام لا يقوم بها إلاّ جماعة نسمّيها “السلطة التنفيذية”، ومعها سلطتان أخريان هما، سلطة التشريع، أو قُل التنظيم في مثل وضع دولتنا التي تحكم بالشريعة، وسلطة قضاء.
والسلطات الثلاث المفترض أن كلاً منها مستقلة عن الأخرى، وهي جميعًا تعمل بمنطق واحد، فمهمتها النهوض بهذه الدولة، لتكون لها المكانة بين دول العالم.
وقد اجتهد العاملون على مدى طويل منذ إشهار هذا الكيان الكبير بهذا الاسم الذي نعرفه، وبذل كل منهم الجهد الذي استطاعه، ولم يكن يعنيهم ما ينادي به القصاص (الوعاظ)، فعملهم لا علاقة له بهؤلاء.
فكم من مرة صدر عن الدولة أمر، وعارضه القصاص لاختلاف منطقهم عن منطق الدولة، فالمرأة مثلاً يقول منطق الدولة فيها لابد وأن تكون لها بطاقة تُعرِّف بها.. ويقول القصاص لا حاجة لبطاقة، تكفي البصمة.. وتحمل بطاقتها فلا تُقبل حيث يتم مطالبتها بمعرّف في تعاملاتها المختلفة، ويتكرر الأمر، ويتكرر الرفض.
واليوم يُراد أن يضم إلى منهج مدارس البنات الرياضة البدنية، بعيدًا عن أنظار الرجال، ولا يتعرّض فيها لما هو حرام، فيأتي الرفض من هؤلاء الوعاظ.. لا لشيء سوى أن كثيرًا من وعاظنا يعيشون زمانًا غير زماننا، نتغيّر جميعنا من حولهم، ويظلّون في ماضٍ لهم له مواصفات خاصة لا يغادرونه فكرًا، وإن غادروه أجسادًا، واحتياجات، فهم مثلنا يستعملون أدوات العصر ما دامت تسهل لهم الحياة.. أمّا فتاواهم لنا فتجعل الحياة أكثر صعوبة، في عصر أصبحت الحياة أسهل وأجمل وأبهى.
لن ينسوا أخًا لم يرَ في كل ما في عصرنا هذا مباحًا حتّى أدوات المائدة: ملعقة، وسكينة، وشوكة، بل وأكثر من ذلك الساعة على معصمك من البدع المحرّمات.
ولن ينسوا ماضيًا كان فيه أمثال لهم، حرّموا حتى الهاتف، وكل ما جاء من المبدعات لتطوير الحياة رفضوه، ثم لم يلبث الزمان أعوامًا حتّى كانوا من مستعملي ما حرّموا.
وأذكر زمان إنشاء مدارس البنات، والجدل الذي مضى أعوامًا ثم خفت، وعمّا قليل مَن جعلوا مَن يسمح لبناته أن يدرسن في هذه المدارس ديوثًا، ثم رأيناهم بعد ذلك يتسابقون على إلحاق بناتهم وحفيداتهم بالمدارس والكليات؛ لأن الخريجات توظفن، وجئن لأهلهنّ بمرتبات وافرة.
وأظل أفكر لِمَ لا يأخذ هؤلاء العبرة من أولئك؟ ولماذا يصرّون على تعطيل مشروعات الوطن، لا لشيء إلاّ ليعلنوا رفضهم، وليس مهمًّا أن يعودوا عنه بعد إرهاق الوطن.
إن ما يجري على أرض هذا الوطن لأمر عجيب، ليس له مثيل في أوطاننا العربية والمسلمة، وكلّما تقدّم الزمان، وقلنا إن هذه الأفكار قد ماتت، إلاّ ونجد مَن يظهر ليرفض كل شيء، ويجادل في كل شيء، وهو لا يعلم بشيء أبدًا.
مللنا هذا كله يا وعاظنا، وستستمر حياتنا، رفضتم أم لم ترفضوا، فالتغيير سنّة الحياة، ولابد أن يكون واقعًا رضيتم أم غضبتم، فلماذا لا تكونوا معنا، فالجماعة بإذن الله مرحومة، والتفرق مذموم.