النفر الذين في وطني لا يمتلكون منازلهم هم رقم كبير، حتى وإن وجدنا في صحافتنا له عدة أرقام تنسب إلى إحصائيات تصدر عن وزارات عدة، إلا أن المعايش لأبناء الوطن يعلم أن جلهم لا يمتلكون منازلهم، وعدم امتلاكهم لمنازلهم خيار صعب ارتضوه مرغمين، فالحصول عليه في وطني، قد يجبرك أن تذيق أسرتك ذل الحاجة حينًا، وأن ترضخ لتكون مدينًا جل أيام حياتك، وهو أمر مؤلم للغاية، وإما أن تبحث عن دخول جانبية حتمًا لن تجعلك تخلص في عملك، فالرضا أن تكون من جملة المستأجرين لمساكن قد يضطرك للرحيل عنها بين حين وآخر كلما ارتفع ما تدفعه لقاء البقاء فيه، والمعذبون في الأرض من محدودي الدخل من موظفي الدولة حتى ولو كانوا من المحسودين كالمعلمين كلهم من هذا اللون إلا من قل، ممن ترك له الأهل ثروة يتكئ عليها، لهذا تضطرب الأرقام المزعومة عمن يملكون مساكنهم في هذا الوطن، ومن ارتضوا من أهله أن يكونوا رحلًا من منزل إلى آخر، حتى لا يجبروا أنفسهم على ذل الدين، الذي هو همٌّ بالليل وذلٌّ بالنهار، سعداء بهذا الارتحال رغم ما يعرضهم لألم دائم، وتصاعد ما يدفعونه أجرة لمساكنهم مع ما يدفعونه لحاجيات الحياة أمر يجعلهم في صراع دائم مع توفير حاجياتهم الضرورية، ورغم هذا كله فهم كلما ارتحلوا من مكان إلى آخر اكتشفوا أن التخطيط غائب عن أحياء مدنهم، فما خطط ليكون حيًا بكامله المباني فيه لدورين فقط عما قليل يسمح لمن بنى أن ينقض ما بنى ليحوله عمارة من عدة أدوار، وليكون في دورها الأرضي محلات تجارية، والحي الذي كانت أدواره لا تتجاوز ثلاثة أدوار كالحي الذي أسكنه يتحول بقدرة قادر إلى عمارات من خمسة وستة أدوار كالفيلا التي أمام مسكني التي هدمت ليبني مكانها عمارة وصلت حتى الآن لستة أدوار، ولا يزال العمل فيها جاريًا ولا أحد يعلم متى يتوقف الارتفاع، والحي الذي أسكنه عجيب غربه فلل صغيرة كما كان وسطه، ثم تغير الوضع في بعض جوانبه فأصبحت المباني فيه لا نسق واحد فيها، فيها المبنى ذو الدورين ثم ذو الثلاثة أدوار ثم انفرط العقد وأزيلت الكثير من المباني لتصبح عمارات ذات أدوار متعددة، فترى فيه كل أنماط المباني من مدينتي التي فقدت هويتها منذ زمن ليس باليسير في أحيائها لا تجد في الغالب شوارع مستقيمة بل جلها متعرجة سواء أكانت أحياء قديمة أم جديدة، والبناء المشوه هذا في أحيائها هو السمة الغالبة، التي تثبت ألا تخطيط معتمد لأحيائنا وهي متروكة لسكانها يطورونها بحسب رغباتهم، والفيلا التي هدمت أمام المبنى الذي أسكنه ويبنى في مكانها عمارة قد تكون فيما بعد شاهقة، العمل في هدمها والبناء الجديد منذ أربعة أشهر أو تزيد جعل حياتنا مرهقة، فالعمل على مدار الساعة لا يتوقف إلا قليلًا، والمقاول الذي يقوم بالعمل لا يهمه أنه يعمل في مشروع في حي مكتظ بالسكان، فهو لا يترك لهم وقتًا للراحة أبدًا من أصوات آلاته المتعددة ولا أصوات عمّاله وغناؤهم أثناء العمل ليلاً ونهارًا، فإذا بيتك الذي كنت تنعم فيه بالراحة أصبح وكأنه في سوق مكتظ بالناس، أصواتهم تتعالى من حولك فلا يغمض لك جفن، حتى ولو كنت مثلي مريضًا لا تهدأ آلامك إلا قليلًا، فإذا هذا القليل الذي ترتاح فيه، يملأ بأصوات مزعجة من كل لون مصدرها هذا الذي يقام أمام المبنى الذي تسكنه، ولا رعاية لجار أبدًا، وكأننا في جزر منعزلة، كل منا لا يسأل عن أحد من حوله، مادامت رغباته يصل إليها بسهولة، ومن زار مثلي بلدانًا كثيرة متقدمة ونامية لم ير مثل ما يجري في بلاده هذه مع عدم الشعور بالآخرين، مع أننا نزعم أنا خير البشر لإيماننا بدين يراعي مصالح الجميع، فإلى متى يستمر هذا النمط من الحياة في وطننا، ولماذا يغيب التخطيط والرقابة عن أحيائنا، مع أني أظن ذلك لا يكلفنا كثيرًا لو اخترناه، فهل أنتم معي، هذا ما أرجوه، والله ولي التوفيق.