لعل كثيرًا من طلاب العلم الشرعي قبل أن تحدث حادثة “الدالوة” القرية الوادعة في ريف مدينة الأحساء، التي لم أرَ مثلها في تعايش أهلها من طائفتين تسكنها منذ زمن طويل، بينهم التواصل، والاحترام المتبادل، رغم أن كلاً منهما على مذهبه لا ينازعه الآخر فيه، أدركوا أن فكرًا طائفيًا خطرًا عليهم، وعلى مجتمعهم الآمن فلم يعتنقوه، وحاولوا جاهدين أن يصدوه عنهم، حيث لا نتائج لهذا الفكر إلا أن تسيل الدماء وأن يسيطر الخوف على الجميع.
أقول لعل كثيرًا من طلاب العلم الشرعي لم يدرك هذا الوضع في الأحساء المدينة التي ضمت في جنباتها مدارس علمية في المذاهب الأربعة السنية وأخرى في المذهب الشيعي، واستطاعت التعايش، لأن كثيرين منّا نشأ في بيئة طاردة للتنوع والتعدد بصورة قسرية تخالف الفطرة البشرية التي فطر الله الناس جميعًا عليها، فالاختلاف بينهم ضرورة إنسانية، وصبهم في قالب واحد ينازع هذه الفطرة، ويفشل كلما حاوله أحد على مر عصور التاريخ الإنساني.
بل إن محاولة قسر البشر على فكر واحد ومذهب واحد ورأي واحد هو أس الاضطهاد في المجتمعات البشرية، وتأسُّس الكراهية والبغضاء بين جماعاتها، ومن نجا من طلاب العلم الشرعي، فحدّث الناس بذلك نالته السهام من كل الجوانب، الأقل منها انتقاص علمه، والأكثر تكفيره.
قد أشاع البعض في مدنٍ غير الأحساء، أن الشيعي ليس منَّا، وهذا أقل ما قيل في حقه، أمَّا ما ينال مذاهب الشيعة من ذمٍ من قبل البعض، حتى ما كان منها قريبًا من مذاهبنا نحن أهل السنة؛ فكثير، ولو كان هذا في الخفاء لكان الأمر ميسورًا يمكن السيطرة على آثاره، ولكنه معلن نسمعه من فوق بعض المنابر، وفي بعض مواعظ قصَّاصنا، وفي بعض حلقات الدروس في المساجد، بل وفي بعض المحاضرات، وحتى في بعض مقالات الصحف وتعليقاتها، وكتب يوصى بقراءتها وألا علمَ إلا فيها، تزيد بالتبديع والتفسيق وتصل إلى التكفير.
وإنكار هذا لا يجدي وقد وقع ما وقع، فالشاب الذي ترن في أذنه كل هذه الكلمات عن الطائفة الأخرى، وهناك من يستقطبه للعنف داخليًا وخارجيًا لاشك أنه سيفعل ما فعل مجرمو هذه الحادثة البشعة. ودعوني أقولها صريحة: لا يستطيع أحد أن يحمِّل هذا الإرهاب مذهبًا من مذاهب المسلمين الشائعة، والتي عاشت قرونًا يعتنقها الناس ويتعلمونها ويعلمونها، فهذه حقيقة لا يجهلها في عالم المسلمين إنسان، إنما مما يمكن أن يشار إليه بالبنان، خلاف عقدي وقع بين المسلمين، وجاء من يستغله سياسيًا، حتى جعل منه فيصلاً بين هذه الجماعات إذا تنازعت، والخلاف العقدي في مسائله الكبرى لا مجال فيه إلا للحكم بإيمان أو كفر.
والنصوص الواردة في السنة عن الجماعة التي تبقى على الحق إلى قيام الساعة والتي وُصِفَت بالمنصورة، وأضفى البعض عليها أوصافًا أخرى وجعلها الناجية من النار وحدها لزيادة في حديث فيها مقال، فأسيء تفسير هذه النصوص، حتى أصبح في حالات السواد الأعظم من المسلمين معزولاً عن أن تشمله هذه النصوص، وانحصرت في فئة قليلة مذهبها التكفير لكل من خالفها، بل إن نصوصًا لبعض من ينتسب إليها تأمر بقتله واستحلال دمه وماله وعرضه.
وللأسف أن مثل هذه الثقافة المتشنجة أشاعها البعض في مجتمعنا حتى خشينا يومًا أن يتقاتل فيه أهله، لولا حكمة جعلها الله في حكامه وجمهور أهله، فنجت البلاد والعباد.
ولكن وهي نصيحة خالصة لا أبتغي بها سوى وجه الله ثم وجه الوطن وصالح أهله، إن لم نراجع هذه الثقافة، فنستبقي ما كان منها حقًا، ونعلن صراحة، أن ما كان منها يقود إلى إرهاب وعنف ليس من الحق في شيء وتركه هو الأولى.
بل إننا إن لم نؤاخذ من ينشر هذا على الملأ ويؤسس لكراهية بيننا تشتعل، وتؤدي إلى الكوارث ونحاسبه حسابًا عسيرًا، وإلا فلننتظر نتائج لا تُحْمَد عُقباها لا سمح الله، والله ولي التوفيق.
الوسومالدالوة تراجع ثقافة حادثة
شاهد أيضاً
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …