إذا قُضي على ارتفاع الأسعار المفتعل نكون خطونا خطوة مهمة للقضاء على هذا الوضع الذي أدّى إلى تآكل الدخول..
لعل أهم مشكلات الدول اليوم وأخطرها المشكلات الاقتصادية, خاصة وأن العالم اليوم يعيش ركودًا اقتصاديًّا ظاهرًا بعدما أصاب انهيار بنوك الإقراض للعقارات في الولايات المتحدة الأمريكية, ممّا أدّى إلى تسرب هذا الانهيار إلى القطاعات الأخرى, والذي لا شك فيه أبدًا أننا في هذه البلاد نتأثر بأحوال العالم من حولنا, وحينما بدأ مواطنون ينادون بزيادة المرتبات لشعورهم أن قوة الريال الشرائية انخفضت إلى ما يساوي 57 هللة, أي قد اقتربت إلى النصف ممّا كانت عليه قبل أعوام, فقد نشرت جريدة الاقتصادية أن لها دراسة أثبتت ذلك, والناس يشعرون بأن ما تشتريه المئة ريال قبل أعوام ضعف ما تشتريه اليوم, وصغار الموظفين وأصحاب المهن الحرة الصغار شعروا بهذا بصورة جلية, فالدخول تآكلت عبر ارتفاع الأسعار المستمر, وارتفاع نسبة التضخم سنة بعد سنة حتى أصبحت لا تفي بالضروريات عند أصحاب الدخول المحدودة, وحتمًا ليس الحل زيادة المرتبات, فالتجربة أثبتت أن زيادتها تغري المنتجين والمستوردين للسلع والمقدمين للخدمات برفع الأسعار للحد الذي يلتهم كل الزيادة التي أقرّت, بل وتأكل من أصل الدخل قبله, ولكن الأوضاع يجب أن ينظر إليها في اتجاه آخر, فلابد من الحد لارتفاع الأسعار, ولا أقول بوضع تسعيرة إجبارية, بل بالقضاء على كل الأسباب التي تؤدّي إلى ارتفاعها, وأولها غياب المنافسة الحرة التي تجعل قانون العرض والطلب يعمل, فتحدد الأثمان عند تساوي كمية العرض مع كمية الطلب, فلا يسمح لأحد أن يحدد ثمنًا لسلع يبيعها عبر ما يقدر لها هامش ربح يصل أحيانًا ضعف تكلفتها أو أضعافها, بل يكون تحديد هذا الثمن عبر اتفاق بينه وبين حماية المستهلك في وزارة التجارة بعد معرفة تكاليف السلعة حتى تصل إلى السوق, ويكون الثمن حيئنذٍ محققًا لربح مجزئ له ولكنه لا يضر المستهلكين, فلا الأمور على عواهنها, فيحدد المنتج والمستورد ثمن سلعته دون أي اعتبار, فيبيع سلعته للناس بأضعاف تكلفتها (ثمن شرائه لها ونقلها وغير ذلك) ممّا تكلفه حتى أصبحت في السوق, وهذا فيه غبن للمستهلك واضح لا يحتاج إلى تدليل, فإذا قضي على ارتفاع الأسعار المفتعل نكون خطونا خطوة مهمة إلى القضاء على هذا الوضع الذي أدّى إلى تآكل الدخول, ثم نجد العوامل التي تؤدّي إلى منع توالى ارتفاع نسبة التضخم شهرًا بعد آخر, وأن نحاول أن نمنع كل ما يؤدّي إلى عدم المنافسة الكاملة كالاحتكارات, سواء كان احتكار فرد واحد, أو جماعة لتوريد السلعة أو إنتاجها, حيث يتحكم في سعرها, وكلما اراد أن يرفع السعر غيّب السلعة عن الأسواق حتى يزيد عليها الطلب, فيطرحها بالثمن الذي يريد, وأن نمنع الغش التجاري بأنواعه, وأن نطبق الأنظمة في الاستيراد بدقة حتى لا يجرؤ أحد أن يستورد سلعة رديئة أو مغشوشة, ويطرحها في أسواقنا, وأن نمنع كل موظف له علاقة بالتجارة أو الصناعة أو الاستيراد من أن يكون له نشاط في هذه المجالات, يجني منه أرباحًا ممّا قد يجعله لا يطبق الأنظمة بإحكام لتحقيق مصالح لمؤسسته التجارية أو الصناعية, ثم إذا بحثنا أوضاع المواطنين خاصة منهم محدودي الدخل من الموظفين وأصحاب المهن الصغيرة, والذين يعتمدون في حياتهم على دخول محدودة تؤثر فيها العوامل الاقتصادية, حتى تجعلها لا تؤدّي وظيفتها الأساسية في توفير حياة كريمة لأصحابها, ووجدنا الحقائق ناصعة لما يعانون, فيجب ألاّ يتهمهم أحد أبدًا أن مطالبتهم بزيادة الرواتب تؤدّي إلى فتنة, أو أن أحدًا يقودهم لأن استقرار الوطن وأمنه يغيظه, فهذا تصور خاطئ لا معنى له, فطلب زيادة المرتبات أمر لا علاقة له بفتنة ولا بأمن واستقرار الوطن, بل هو حق للمواطن الذي يرى أن دخله لا يكفيه حتى وإن اخطأ الطريق, كذلك ليس من حق أحد أن يدّعي أن هذه المطالبة قد تؤدّي إلى تشويه سمعة الوطن, فما أبعد هذه المطالبة عن ذلك, ومن لا يحس بمشكلة أبدًا, لأن دخله يفيض عن حاجاته وأرصدته الوفيرة لا تشعره بما يشعر به أصحاب الدخول المحدودة في مثل هذه الاحوال, فعليه أن يحمد الله عز وجل, وألا يجعل مطالبة غيره بتحسين دخله خيانة لوطنه, أو تفريطًا لحقوقه, ففي كل دول العالم تظهر مطالبات بزيادة الأجور كل يوم, ولم يحكم في أي بلد في العالم أن المُطالب قد خان وطنه, أو ارتضى له أن يذم وطنه, ونحن على يقين أن ولاة أمر هذه البلاد يهمهم أمر مواطنيهم وما يعانونه وأنهم يتخذون من الوسائل ما يرفع المعاناة عنهم, فهم دومًا وفقهم الله تهمهم مصلحة مواطنيهم, وإنا لنرجو أن تحل مشكلات لوطن دون توجيه اتهامات, والله ولي التوفيق.