الذي لا أشك فيه لحظة أن في مجتمعنا هذا الطيب عددًا من الذين يحملون العلم الديني قد تخصصوا في علومه رغبة في خدمة وطنهم وأهله، وبعضهم أمضى العمر كله يتعلَّمه ويعلِّمه بعد حصوله على أعلى الشهادات فيه، وفيهم من ثنى ركبتيه في حلقات الدرس بين يدي العلماء البارزين في هذه العلوم والمشتهرين بالاعتدال والوسطية، والذين ربوا نفراً من تلاميذهم على منهجهم، فأصبحوا بعدهم نجوماً يقتدى بها في هذا المجال، وهم دوماً ضمان أمان إذا أحس الناس بشيوع الغلو والتشدد بين بعض مَن يدعون العلم بهذه العلوم، لأنهم يواجهون الغلو والتشدد باعتدالهم ووسطيتهم التي تقود إلى الثبات على هذا الدين الحنيف، وتقود الناس إلى الالتزام بأحكامه، وهذا أمر ولاشك مهم جداً يجب مراعاته.. ولكن إذا شاع الغلو والتشدد؛ وأُعطي الفرصة للتغلب على الاعتدال والوسطية، فالخشية ليست على الناس فقط، بل الخشية على الدين ذاته، الذي قد ينفر الجاهلون منه، ظناً منهم أنه يدعو إلى ما يدعو إليه الغالون والمتشددون، وأخشى ما يخشى على الدين أن ينتشر بين الناس التحلل من أحكامه، وظهور الدعاوى الباطلة، بأن مصادره غير صحيحة، وأن علماءه على مر العصور قد أدخلوا عليه أفكارًا لا تؤيدها نصوصه، فحركة ما أسماه البعض تنويراً وغايته تنفير الناس من الدين، والاستهانة بأحكامه وبمصادر تشريعه خاصة السنة النبوية، والقياس والإجماع، ثم التشويش على اجتهاد الملتزمين بشروط الاجتهاد وغاياته، فعندما تسمع مَن يتطاول على الإمامين البخاري ومسلم، ويدَّعي أنهما رويا من الأحاديث ما هو موضوع لا يصلح أن يكون دليلاً على الأحكام، فلا تظن هذا المعلن لذلك قد قرأ الصحيحين وعرف ما فيهما، وعلم مصطلح الحديث وقواعد الجرح والتعديل، فالحقيقة أنه جاهل لذلك كله، لا علم له به، ولو أراد تعلمه لأمضى ما بقي من عمره ولم يحصِّل منه شيئاً، ولكن هواه تغلَّب عليه، وأراد التخلص مما يمنعه من أن يأتي ما حرضه عليه هواه، وهذا كله يفت في عضد المعتدلين الذين ينهجون منهج الوسطية، حينما يرون الهجوم على أحكام الدين ومصادره وعلومه وعلمائه ديدن هؤلاء المدَّعين زوراً التنوير، وقد يصرفهم عن مواجهة أهل الغلو والتشدد، لأنهم حينئذ يرون الأهم أن يدافعوا عن دينهم ضد هؤلاء الذين يهاجمونه ظلماً وعدواناً، ويقصرون همهم حينئذ على نصرة دينهم، ولهم كل الحق في ذلك، فهلاَّ كف هؤلاء عن عدوانهم ليتفرغ المعتدلون لمهمتهم الأصلية؟! هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.