من الرجال الذين مَنَّ اللهُ عليهم بالخُلق الرفيع، وصفاء النّفس الذي يجعلها محبّة لخَلْق الله دون تمييز، ترجو لهم الخير دومًا، وتتمنّى -لو استطاعت- درء كلِّ شرٍّ عنهم. من هؤلاء الرجال مَن محاسنه الغالبة عليه قولاً وسلوكًا، تستبقيه في ذاكرة الناس حتّى ولو غاب عنهم، أمّا غيابه عمّن عرفوه عن قرب، وعاشروه، فهو حتمًا لا يغيب شخصه عنهم، فنفوسهم تمتلئ له من محبة تجعله معهم حضر أو غاب، فقد خبروا خصاله، وخلاله، ومواقفه كافة، عرفوا له فضله، وحمدوا له سجاياه، فهو بكل هذا بينهم، وإن غاب بجسده، يتذكّرون له أحاديثه إليهم، ونصائحه لهم، ويشعرون بمحبّته لهم، وودّه الذي لا ينقطع، وهكذا يريد الله لبعض عباده من زكاء النفس وصفائها ما يعهده كل متعامل معهم، ويلمسه منهم في جميع أحوالهم وحالاتهم، قلت هذا لمن سألني عن أخي الوزير العالم الأديب معالي الشيخ أحمد زكي يماني، الذي سمّاه أهله «زكيًّا»، فإذا بربّه يزكّي نفسَه فتصغر لجميع خلق الله، تقترب منه، فتعرف معنى صفاء النفس، وتدرك معنى محاسن الخُلق التي قال عنها سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن المؤمن ليدرك بحُسن الخلق درجة الصائم القائم)، فإذا كان حباه الله بطاعته فلم يفرط في فرائض الله، وأدّاها بالحرص كله مثل مَن نتحدث عنه، فقد أضاف لما أدرك بحسن الخلق ما نسأل الله أن يرفع به درجته يوم أن يلقاه، وهو الرجل الذي إذا عرفته في الحلِّ، والتّرحال، وأثناء العمل، ووقت الراحة، عرفت أنّه الرجل الثابت على قيمه التي يؤمن بها، ولا يرتضي عنها بديلاً، والذي يستوعب كل اختلاف، ويستطيع التحاور مع صاحبه في هدوء، واعتراف بقدرات الآخر، لكنه قط لم يتنازل عن ما آمن به عن يقين تدعمه الحجج والبراهين، عرفته متدينًا، عالمًا بعلوم دينه، قريبًا من الاعتدال والوسطية، بعيدًا عن الشطط والغلو، مقنعًا حينما تُطرح القضايا العميقة ذات الجذور في النصوص، التي يحتاج فهمها إلى علم راسخ، وترى في مجلسه كلَّ ألوان الطيف في مجتمعنا، يستمع للجميع، ويسعد للمصيب، ولا يغضبه المخطئ أبدًا، ولكنّه يصوّب الخطأ بهدوء، ويسوق الحجّة عليه بحيث تصل إلى المخطئ دون أن يجرحه، خدم وطنه منذ تخرّج في الجامعة عام 1952م- 1372هـ، حينما حصل على ليسانس الحقوق من أعرق كليات جامعة القاهرة، فعمل موظَّفًا، فمستشارًا، فوزير دولة، ثم وزيرًا للبترول والثروة المعدنية، في رحلة عمل وطني استغرقت من عمره المديد -بإذن الله- أربعة وثلاثين عامًا، كان خلالها الرجل الذي يقوم بعمله بإخلاص، ويرجو لوطنه وأهله الخير، ولمّا ترك الوظيفة بدأ رحلة عمل من نوع آخر، اتّسع له فيه الاختيار، فأسس مركزًا لدراسات الطاقة في لندن، وأسس مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، والتي تعدّدت اهتماماتهاـ فاهتمّت بإحياء تراث الأمة المرصود في المخطوطات، فاهتمّت بالمخطوطات دراسةً وترميمًا، والسعي لحصرها في المكتبات العالمية، واهتمّت بطباعة النادر منها، وتسعى المؤسسة لإصدار موسوعة شاملة لمكة والمدينة، أنجز منها حتى الآن ما يقارب عشرة أجزاء، واهتمّت بدراسة مقاصد الشريعة الإسلامية، وأنشأت لها مركزًا حشدت له من الخبراء والعلماء جمعًا، وأصدر المركز العديد من الدراسات حول المقاصد الشرعية ولا يزال، وهو يشرف على ذلك كله، ويشتغل به -قوَّى اللهُ عزمَه، وأمدَّ في عمره-، ألقى الكثير من المحاضرات فيما تخصص فيه في الجامعات العالمية والعربية، ولا يزال حتى اليوم يواصل عمله في مؤسسته الثقافية الخيرية التي شملت كل ما تحدثنا عنه، والكثير غيره.
ولعلّ من سألني عنه اقتنع أن محاسن الرجال تستبقيهم في ذاكرة الناس حضروا أم غابوا، فكيف إذا كانوا حاضرين، وهم ملء السمع والبصر، أطال الله عمر معالي الشيخ أحمد زكي يماني، ومدّه بالصحة والعافية، ولا حرمنا من الاستماع إلى حديثه العذب في كل الأوقات.