النقد أهم وسائل الإصلاح في المجتمعات، شريطة أن يكون النقد يعتمد على معلومات حقيقية وموثوق بها من مصادر لا يتسرب إليها الشك أبدًا، ترميها بعيدًا عن الأغراض والغايات الدنيئة، وإن لم يكن محايدًا كليًّا إلا أنه يتوافر له من الحيدة قدرًا معقولًا، وأبعد النقد عن تحقيق غاياته المرجوة في الإصلاح هو النقد الساذج الذي يبنى على أيدلوجية دون النظر إلى حقيقة ما ينتقد، وإنما لمجرد أنه صدر عن من لا يوافقك فكريًّا، وهذا في عالم بناء الأفكار معهود، وهو عند المتعصبين لها في ذرى السذاجة، فهذا الذي لا يوافق على أن لا مانع شرعي يمنع المرأة المسلمة من قيادة السيارة، يبحث عن أسباب تمنعها، ولو كانت مخترعة تنبئ عن سذاجة لا مثيل لها، فيدعي أن قيادتها للسيارة تسبب لها عقمًا فلا تحمل، ورغم ما يثير ذلك من سخرية، إلا أن صاحبه ماضٍ في ترديده، وقد رأينا لمثل هذه السذاجة في النقد نماذج في جميع الميادين، فكم قرأنا من ينتقد كتابًا ويمعن في تخطئة مؤلفه، وهو لم يقرأه أصلًا، وأما النقد السياسي ففي عالمنا العربي يكاد أن يكون مفقودًا، بسبب ما تمر به بلداننا العربية من أوضاعٍ بصفةٍ عامة، وإذا وجد فهو أكثر سذاجة من كل أنواع النقد الأخرى، فمبناه عند من يمارسونه على اختلاف النخب السياسية، والذي للأسف لا تبني أفكارها على مصالح شعوبها، وإنما تبنيه على خلافات هي في الأصل غير سياسية، وتجد له ألوانًا في ساحاتنا عجيبة غريبة، فمن نقاده موتور، يقوم نقده على كراهية شديدة لمن يحكمون، ومنهم من يقوم نقده على أيدلوجية طائفية، ومنهم من لا يعرفون السياسة أصلًا، ويمارسون نقدًا لما لا يعرفون، فيظهر نقدهم؛ لا ساذجًا فقط، بل مضحكًا هزليًّا، ثم ابتلينا بنوعٍ جديد من النقاد في السياسة لا تعرفه مجتمعات البشرية الراقية، فظهر في عالمنا العربي من نُسمّيهم النشطاء، ممن لا علاقة لهم بمعرفة سياسية، أو تجربة. نبت شيطاني زرعه في مجتمعاتنا العربية الجهل العميق بحقائق الحياة، فهم يظنون أن الاختلاف السياسي يمارس فقط لأنهم يريدون أن يظهروا، أو أن يكون لهم شأن في مجتمعاتهم، وإن لم يكن لذلك أسس يبنون عليها هذا الشأن، فقد ظهر في مجتمعاتنا العربية ألوان من هؤلاء النشطاء بعد ما سمي بالربيع العربي، لم يعرفهم الناس من قبل، حتى في محيط كل منهم الضيّق، في حيّه أو أهل فنه أو حرفته، ويبدأ في صراخ لا يسمع سوى نفسه، لأنه لا يقول شيئًا مقنعًا أو مفيدًا، ولكنه يحرص على توزيع الشتائم في كل اتجاه، لا يرضى عن شيء أبدًا. مَن يحكمون في نظره كلهم خونة، يجب أن يتركوا الحكم فورًا، حتى رأينا من يُرشِّح منهم نفسه لرئاسة الدولة، وهو لم يقم بعمل في حياته كلها، ولم يُمارس نشاطًا من أي لون سوى هذا الهذيان الذي يُطلقه لسانه نحو كل أفراد مجتمعه، فهؤلاء لهم شخصيات عجيبة تبحث عن أمثلة لهم في تلك المجتمعات التي يعدون الناس بأن يُطبّقوا ما فيها من نظمٍ سياسية كالديمقراطية، والواحد منهم ما أن يُنتَقد حتى يُصبح ثورًا هائجًا، لا يعنيه من أصاب بقبيح ألفاظه، وقاموس شتائمه، هُم ولاشك نقاد مُزيّفون، لا تنتفع المجتمعات من نشاطهم الرديء أبدًا، وإذا أساء أحدهم نحوكم، رأيتَ جمعًا من أمثاله يُعلنون بطولته، وأنه ضحية انتهاك لحقوق الإنسان، هُم جميعًا يسعون إلى تشويه مجتمعاتهم عامدين، رغم أنهم يجهلون ما يُطالبون به، بل المجتمع كله ضحية لسلوكهم الرديء، فقد ملأوه خلال خمس سنوات بأنماطٍ من السلوك الخاطئ لم يعرفها في حياته إلا عندما أطلّوا على ساحته، يقوّمون أفراده وجماعاتهم، وترى بعضهم قد احتل منبرًا يمارس من خلاله الوقوع في أعراض الناس فيهجوهم، بل ويهجو مجتمعات بأسرها. لون من الهوس يعتري هؤلاء، وشغف بالحكم غير معهود من أمثالهم، عمّت الفوضى بعض بلادنا العربية، فأظهرت أسوأ ما فيها، ورأينا فيها صُحفًا خاصة بعضها تخصَّص في نشر فضائح متوهّمة، للقضاء على الخصوم، وكثر نشر ما يسمى التسريبات عن مؤسسات في الغرب، فيها فضائح لا يدري أحد مدى صحتها، فاصطبغ العمل السياسي في البلدان العربية بصبغة الجهل، وأصبح الناس لا يدرون بالصحيح من المعلومات المتدفقة عنه، ولتعود الحياة إلى مجراها الطبيعي ولتتحقق إصلاحات حقيقية لابد من مواجهة لهذه الفوضى والقضاء عليها، ولعلنا على ذلك قادرون، فهو ما نتمنى، والله ولي التوفيق.