لا أحدَ يعرفُ ذرَّةً من العلم، لا يدركُ أنَّ محبَّة سيدي رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فريضةٌ في الدِّين، وأنَّه لا يصحُّ إيمانٌ بلا محبَّة للهِ، وللرسول -عليه الصلاة والسلام- وقد كان صحابته على محبَّةٍ عظيمةٍ له، وتوقير له، حتَّى أنَّهم في حضرته لا يرفعون البصر إليه؛ توقيرًا له وتعظيمًا، والمسلمون كافَّة في كل أقطارهم، وعبر كل أزمانهم كذلك، ولكنَّ أشدَّهم حبًّا له مَن كانوا في إقليمه الذي ظهر فيه، وفي أعظم مدينتين احتضناه منذ بُعث، وحتَّى لقي ربَّه: مكَّة المكرَّمة، والمدينة المنوَّرة، فحبُّ أهلهما له أرسخُ في النُّفوس، فهم جيران بيت الله، وجيران مسجده صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذي دُفن بقربه، ثمَّ ضمَّ مدفنه -عليه الصلاة والسلام- إلى مسجده، حتَّى تكون زيارة جيرانه له يوميَّة، ومَن عاش في إحدى هاتين المدينتين علم شدَّة محبَّة مَن فيهما لسيدنا رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأن لكثيرين منهم وردًا من الصلوات عليه كلَّما أرخى الليل على مدينتهم بسدوله، وكلَّما ظهرت تباشير النهار في أفقها، وهم مع ذلك أغرموا بالاحتفاء بكل المناسبات النبويَّة، بدءًا من مولده صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهجرته، والإسراء به، والمعراج، وغزواته، وكلّ تاريخ حياته، ينتهزون الفرصة في مرور كلِّ ذكرى مرتبطة به؛ ليتلوا شيئًا من سيرته، ويتذكَّروا ما دعا إليه، وما به وعظ، ويتذكَّروا أخلاقه وسلوكه، وما يرجون للاتباع له، وليسمعوا شيئًا من أقواله وأفعاله وتقريراته، غايتهم الاقتداء به، ويتجنَّبون ما استطاعوا ما قد يكون فيه ابتداع، ولكنَّهم لا يرون في هذا الاحتفاء ما هو بدعة، ما لم يرتكب أثناء إقامته في بيوتهم ومجالسهم بدعة محرمة، وحاشا لمحبٍّ له أنْ يرتكبَ شيئًا نهى عنه، وقد يشيعُ البعض عنهم ما لم يعرفوه قط، كالقول بأنَّ في مناسباتهم الدينيَّة اختلاطًا بين الرجال والنساء، فمثلي -وقد اقتربَ من الثمانين- لم يرَ في هذه المناسبات ما يدَّعيه مثلُ هذا البعض قط، وليس في عباراتهم في حبِّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ما يشير من قريب أو بعيد إلى محرم، هم محبُّون مقتدُون، لا يعرفون سوى هذا، ولا يلقون بالاً لتُهم لا تقوم على دليل، وتكرار هذه التُّهم لا يدلُّ على نصيحةٍ ممَّن يطلقها، وهم على يقين أنَّ هذا لا يضرُّهم، مادام أن أفعالهم لا يعتريها شيءٌ ممَّا يُقال، ويرجون من الله -عزَّ وجلَّ- أن يثيبهم لمحبتهم له، ولرسوله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ففي مدينتهم مكَّة والمدينة، ينبع كل خير، فجماعات حفظ القرآن انتشرت فيها منذ زمن طويل، وبناء دور للفقراء يسمّونها الأربطة تنتشر فيهما منذ زمنٍ بعيدٍ، والباذلون الخير من أغنيائهم لا يحصيهم العد، في أرض مدينتيهم، وما حولها ينبع -بفضل الله، وبنعمته- كل خير، ليدل على أنَّ أرضا شعَّ منها نور هذا الدِّين الحنيف، لا يأتي منها إلاَّ كلُّ خير، الذي يتربَّى عليه النَّاس منذ الصغر ليكونوا في الكبر هداةً يقتدي بهم النَّاس، ومَن عاش فيهما يحفظ لأهلهما الكثير من الذكرى الطيِّبة لنشر عرف الخير في كلِّ مكان ساروا إليه، فمَن عاش بينهم زمنًا حتَّى أصبح منهم، عندما يرحل مرَّة أخرى إلى موطنه ينتشر فيه ما تعلَّمه من الخير في أرض تلك المدينتين، وما حولهما، إنَّ الحق -قومي- لا ينتجُ عنه إلاَّ مزيدٌ من الخير، ومن فضل الله على أهل هاتين المدينتين أنَّ مسجديها: البيت الحرام، والمسجد النبوي، دارا علم على مرِّ الزمان لم ينقطع التَّعليم عنهما منذ بعثة سيدنا رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وحتَّى يوم الناس هذا، ولن ينقطع -بإذن الله- حتَّى تقومَ الساعة، وأن يوجد في أطرافها جاهل لا يمتنع، ولكنَّه مع المعاشرة عمَّا قليل يتركه إلى العلم، وهو أمر ملاحظ على مر العصور والأيام.
اللهمَّ انشر الخير فيهما، وعنهما، فهما المدينتان، وما بينهما، الذي سيأوى إليهما الإيمان آخر الزمان، ويبقى فيهما الخير -بإذنه تعالى- أبدًا.
اللهمَّ اكتب لنا فيهما حياةً دائمةً، وإذا انقضى الأجلُ اجعل لنا فيهما قرارًا حتَّى يوم القيامة، لنُبعث منها مرَّةً أخرى، للحياة الأخرى السرمديَّة، واجعلنا ربنا من أهل جنتك.