ليست التقوى ادعاء

في عام 1383هـ تخرجت في (دار التوحيد) المعهد العلمي الشهير، والذي انتشر خريجوه في سائر أرجاء الوطن يعملون في شتى مجالات العمل، ومنهم أدباء ومفكرون ورجال علم بارزون، وكنت منذ اللحظة الأولى التي التحقت فيها بهذا المعهد العريق وأنا أنفر من كل حوار يخرج فيه المحاور عن السياق ليدعي أنه الأتقى والأعلم بالدين في دعوى لا يثبتها لك شيء من أحواله، سوى أنه إنما يريد أن يلغي رأيك فيوحي إليك بأنك الأدنى علمًا أو تقوى وطاعة لله، لذلك كنت أشترط على من يحاورني ألا يلجأ إلى هذا الأسلوب، فإن لجأ إليه اعتبرت الحوار منتهيًا، وكنت شديد القسوة في هذا الباب، وخاصة عندما يكون الحوار حول مسائل لا مدخل فيها للدين، وأما في الدين وأنا متخصص في علومه فلا أرتضي المزايدة في الحوار على الطاعة أو المعصية، وإنما المرجع الحجة والبرهان باستحضار الأدلة وألا يخرج عن الحوار العلمي الرصين، والتحقت بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة، ولم يكن يومها تعليم جامعي في البلاد سواها مع كلية للمعلمين التي ألغيت فيما بعد وحل محلها كلية التربية وهما نواة جامعتين أنشئتا بعد ذلك، جامعة الملك عبدالعزيز، وجامعة أم القرى، وهناك مضت الأعوام بنا ونحن نتلقى العلم على مقاعد الكلية صباحًا، ونتلقاه عن علماء أفاضل في الحرم المكي الشريف بعد الظهر وفي المساء، لهم في أعناقنا حق نتمنى أن نؤديه لهم ما حيينا، وأثناء الدراسة في السنوات الأربع بالكلية مررت بتجارب لعلها أنضجتني فكريًا فقد كان في تلك السنوات يتردد على بلادنا رجل من الإخوان المسلمين مشهور كان يعيش في أوروبا ويصدر مجلة لجماعته هناك ويقال: إنه المسؤول عن التنظيم الدولي للإخوان، وفي ذات صيف لقيه والدي ونحن في الطائف واستضافه عندنا في المنزل ليالٍ ثلاث لظرف مر به، وكنت معه في حجرة واحدة تلك المدة، فمارس فيها الدعوة لي للانضمام إلى جماعته وطال بيننا النقاش رافضًا ما يدعوني إليه، لأني مقتنع أن الاسلام ليس فيه جماعات ولا أحزاب، وهو يدعو أن يعتصم الناس بحبل ولا يتفرقوا وأشد ما أثارني موضوع البيعة، التي لم أكن أرى أنها تصح إلا لحاكم مسلم لا لأفراد يؤسسون جماعات، وإلا لتعددت البيعات، هكذا تعلمنا وتلك رؤيتي، وعاد الرجل من حيث أتى بعد أن أنجز مهمته التي جاء من أجلها، وظل يتردد بعدها على بلادنا، وكلما حضر حاول الاتصال بي وإعادة الكرة دون جدوى، ثم باغتني آخر منهم بحديث عني في مجلس أحد مشايخنا، وهو لم يرني قط، ولم يتعرف بي من قبل، وهو من رؤوس الإخوان الذين قدموا إلى بلادنا آنذاك، ولأني تلميذ للشيخ يعرفني فقد استغرب حديثه، ثم طلب مني القدوم إليه، وتركه حتى حل بالمجلس فسأله عني فأعاد ما ذكره من قبل، فقال له أتعرفه؟ فأجاب: بنعم، ثم قال له: أهو بمجلسنا هذا قال: لا، فطلب مني أن أتحدث، فعرفت من بالمجلس بنفسي، فخرج الرجل يتعثر في عباءته وهو حديث عهد بها، ثم كان لي معه جولات، وعلمت أن القوم يتجرأون على الكذب، ما داموا يظنون أنه في مصلحتهم، وإن أضر بغيرهم من المسلمين دون وازع من دين أو خلق، ثم جاء الثالث يدرسنا في السنة الأخيرة من الكلية مقررًا جديدًا وضعه عن المجتمع الإسلامي، ورأينا في أفكاره شذوذًا، فالمجتمع المسلم في نظره مجتمع منقطع الصلة بكل ما حوله، وحاورناه إلا أنه بادرنا بالدعوى إياها أنه الأعلم الأتقى، وهو أمر لم نتعوده من مشايخنا الذين يتواضعون حتى يطلب أحدهم من تلميذه أن يدعو له، ثقة بدينه وطاعته، فنفرنا منه ولم نعد نتواصل معه، نستمع ولا نناقش، فأضاف لنفسه مقررًا جديدًا سمى حينئذ لأول مرة في الكلية (قاعة بحث)، فكلفنا أن نبحث حديثين عن العرب، أحدهما موضوع والآخر صحيح، ثم طلب منا أن نكتب عن فضل العرب، وأعد كل منا بحثه، إلا أن الشيخ الجديد اختارني من بين زملائي ليزعم أني قومي، وأن بحثي مستل من بحث الأستاذ ساطع الحصري، المفكر القومي المعروف، ولم أكن قد تعرفت حينئذ على هذا المفكر ولم أقرأ له، فكيف يكون بحثي مستلًا منه، وشكا أستاذي أمري المزعوم إلى من كان حينئذ مشرفًا على الحرمين الشريفين العالم الجليل عبدالله بن حميد، الذي لم ير في بحثي شيئًا غريبًا، فمصادره كتب تراثية معتمدة، ونجوت بفضله من تهمة كانت آنذاك تلقى بصاحبها وراء الأسوار، وكان هذا أول معرفتي بالإخوان فلم أثق بأحد منهم بعد ذلك أبدًا، وزاد الأمر رسوخًا أن تزوجت من مصر وأصبحت أسافر إليها كثيرًا، وهناك تعرفت على الكثيرين من الإخوان، فلم يمحوا من ذهني تلك الصورة بل رسخوها، وبعد ثورة 25 يناير بدأت اكتشف وأنا أتردد على مصر الكثير مما عرفته عنهم، حتى إنني كنت أحذر إخواني المصريين منهم، وألا يثقوا بهم، وكنت قد تعرفت على مرشدين سابقين لهما، عمل أحدهما في بلادنا فترة من الزمن، وسمعت حوارات لهم لم تخرج عن معتاد ما عرفته عن جماعتهم، التي لم أرتح لها قط، خاصة وأنهم ما إن يحاوروك حتى يحدثوك عما يزعمون أنهم عليه من الصلاح والتقوى، وهما أمران لا يمكن إثباتهما بمجرد الدعوى، بل هما سلوك يعرفه الناس بالمعاشرة، وما عاشرت إخوانيًا وعرفتهما فيه إلا نادرًا، فما هم إلا طلاب سلطة يسعون إليها بكل ما يمتلكون من مواهب وقدرات، ولا يهمهم أن يدوسوا في طريقهم إليها أتقى الخلق من صالحي الأمة ورجالاتها المعدودين، ردهم الله إلى الدين ردًا جميلًا فهو ما نرجوه والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: