لا تبنى العلاقات بين البشر إلاَّ في ظل مودّة متبادلة، لأن المودة هي التي تستبقي العلائق به مصانة؛ لذا جعل الله المودّة بين الزوجين سببًا لاستمرار الحياة بينهما، وجعل المودّة جزاء ما بذل سيدي رسول الله لنا من الدلالة على الخير، والهداية إليه فقال: (قل لا أسألكم عليه أجرًا إلاّ المودّة في القربى)، فمودّة آل بيته وقرابته أحد أهم الأسباب التي ترضيه -صلى الله عليه وسلم- وهو مَن وعده ربُّه بأن يعطيه فيرضى، ألم يقل في محكم التنزيل: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)، والمودّة قرينة الرحمة، فالزوجان المتوادّان يتراحمان، قلب كل واحد منهما يفيض للآخر رحمةً، والمودة المتولّدة في القلب للآخر -قريبًا وصديقًا، زوجًا وزوجةً- لا معيار لها إلاّ أن ينطوي القلب على محبته، ومحبة الخير له، وكف الشر عنه، بل والتمازج بينهما في العلاقة الإنسانية، للدرجة التي يبلغ بالفرد أن يحب لمن يودّه ما أحب لنفسه، بل ويتمنى له خير ما تمنّاه لنفسه، وأحب أن يدرأ عنه كل ما رغب أن يدرأ عن نفسه من الشرور، وهذا لا يكون إلاّ مع رقّة في القلب تولّد الرحمة؛ ولذا لا يمكن أن توجد هذه المودّة إلاّ مع إخلاص في الصحبة، والتي لا تكون لغرض زائل من منفعة مادية، أو معنوية، وإنّما ينشئها محبةً للخلق من قريب وصديق، وحين تكون علائق الناس لا تحكمها مثل هذه المنافع تتولّد المودّة المنتجة للرحمة، وحينما يغيب هذا الإخلاص تزور المودّة، فتظهر على اللسان حين اللقاء، وتختفي بسرعة إذا غاب الآخر بشخصه عن نظر من ادّعى المودّة؛ لذا ترى القريب لا يرى قريبه الزمن الطويل، فإذا جمعهما مجلس فالتقيا سمعت قصائد في حب كل منهما للآخر، وقلباهما كلاهما خالٍ من ذلك الحب، لم تجمعهما المودّة، وفرقتهما المنافع، وترى الصديق يعرض عن صديقه فلا يسأل عنه، وحين اللقاء تسمع منه الثناء، وقلبه منطوٍ على شيء آخر سواه، فما أن يغيب عنه حتى يقع في عرضه، ويتناوله بالذم، حتى أن مَن يسمعه يحكم بأنه له عدو، وقد قيل إنه لا يستقر في القلب إلاَّ ما خرج من القلب، فاللسان يردّد ما قد يخلب اللّب، ولكنه إنما يجري عليه اللحظة لغاية، فإذا تحققت لم يعد للسان أن يتحدّث إلاَّ بضد ما ردّده، وغياب المودّة بين الناس في المجتمع يعرّضه لكثير من الشرور، لعلّ أولها تفكك الأسر، وغياب التكافل بين الناس، فلا يهتم أحد إلاَّ بنفسه، ولا يقوده إلى سلوك وعمل إلاّ مصالحه، ولا يتورّع أحد أن ينال من أحد في عرضه وماله، فتضيع الحقوق، وتتقطع الروابط، وهذا لعلّه أهم أسباب وهن المجتمعات الإنسانية، التي تعاني ضعفًا أخلاقيًّا متلاحقًا، وقد يظن كثير من الناس ألاَّ علاقة للأخلاق بضعف المجتمعات، لسيطرة فكرة أن القوة مادية، ولكن الحقيقة التي أثبتتها التجارب الحيّة في المجتمع البشري كله، أنبأتنا أن أولى بوادر الضعف إنما مصدرها وهن الأخلاق، فما تعرّضت أمة للوهن إلاَّ بوهنها وصدق من قال:
إنّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت
فإنْ همُو ذهبت أخلاقُهم ذهبوا
وحتمًا ذلك لا يعني المثالية، التي تصلح أن تكون حلمًا، ولكنها لا تتحقق في الواقع، مادام المتعاملون بشرًا، ولكنها في سياق ما نتحدّث عنه من المودّة، فإنّما نشير إلى شيء عظيم منها يجعل المجتمع أكثر قوةً وتماسكًا، حتى يصبحَ كالجسد الواحد، الذي يتداعى سائره شعورًا بالحمّى والسهر لتعرّض عضو منه لداء مصدره قسوة البشر على بعضهم، فالمودّة شعورٌ راقٍ يولّد الرحمةَ المفرزة التعاطف بين بني البشر، حتى يشعرَ كلٌّ منهم بما يعانيه الآخر، يشاركه أفراحَه وأتراحَه، فإن لم يفعل، فلا أقل من أن يكفَّ عنه شرورَه، ويحزن العاقل في زماننا أن المودّة تكاد أن تغيب عن مجتمعاتنا، ونحن مَن أمرنا ديننا بها، وتنتشر في مجتمعات إنسانية أخرى لا تدين بما ندين، ولكن لها من القيم الإنسانية العُليا ما يجعلها تحافظ على المودّة بين أفرادها وجماعاتها، حتى في حال اختلافها وتنافسها، وتضبط ذلك بنظم ومواثيق تحترم، ونحن لدينا ما يحيي القلوب في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لو أننا فهمناهما حق الفهم، وأعلينا ما فيهما من قيم، ولكنا انصرفنا عن تلك القيم، وتكالبنا على ما تعدنا المادّة به من وَهَم السعادة، فطلبناها بتراكمها -أي المادة- فلم نستطع الحفاظ عليها، ولم نعد قادرين على أن نحققها بغيره، فهلّا تفطّنا لذلك؟ هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.
شاهد أيضاً
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …