نحن لا نقول إن مجتمعنا كله طاهر نقي لا تشوبه شائبة، فنحن مثل بقية البشر، فينا الصالح والطالح
في مجتمعنا اليوم تياران كل منهما يرفع شعاراً ويحارب من أجل أن يثبت هذا الشعار في عقول الناس، وكلاهما لا وسط بينهما، كل منهما طرف، الأول يرى أن مجتمعنا نقي طاهر لا يقع فيه شيء مما يقع في مجتمعات البشر، والثاني يدعي أنه متفسخ يتدهور دينياً وخلقياً، يقول الأول منهما إن مجتمعنا مجتمع محافظ، يلتزم الأفراد فيه أحكام الدين، وتنتشر فيه الفضائل وتنعدم الرذائل، ويبالغ بعضهم فيرى أن كل ما يقع من مفاسد أو معاصٍ أو جرائم إنما هي غريبة على هذا المجتمع، وهي مستوفدة من الخارج، وليس منها شيء يمثل ظاهرة مهما ارتفعت وتيرة وقوعه، وإنما هو سلوك فردي لا يعبأ به ويمكن استئصاله
بسهولة، ولعل مثل هذا يترتب عليه إهمال لما قد يحدث في هذا المجتمع من ظواهر سيئة تبدأ في الغالب يسيرة ثم تستفحل مع الإهمال، والثاني منهم هو ما ينطبق عليه الحديث الصحيح، الذي أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم)، والذي روى فيه لفظ (أهلكهم) بضم الكاف وفتحها، ومعنى هذا أن نقول في (أهلكُهم) بالرفع أي أشدهم هلاكاً، وفي (أهلكهَم) بالفتح أي جعلهم هالكين، واتفق العلماء أن هذا الذم لمن قال هذا القول على سبيل الازدراء بالناس واحتقارهم، واستشعار تفضيل نفسه عليهم وتقبيح أحوالهم، وهذا الصنف الثاني هم الذين ما أن يقع في المجتمع حدث مهما كان صغيراً إلا وارتفعت أصواتهم مشنّعين على مجتمعنا، وزاعمين أنه قد عمّه الفساد، مرة بالإلحاد، وأخرى بالاستهزاء بالدين، أو بالنيل من العلماء أو الصحابة أو ما شابه ذلك، من هذه القضايا التي أصبحت هواية للبعض ترتفع أصواتهم بها بين الحين والآخر، ويصدرون من أجلها البيانات، فبعض نابتة شبابنا ولهم منظرين ممن سبقوهم تخصصوا في إصدار هذه البيانات فما أن يتلفظ أحد بألفاظ تشير إلى إلحاد عبر مواقع الإنترنت أو يكتب تغريدة خاطئة أو يقول عبارة يمكن تأويلها بإلحاد أو استخفاف بالدين، ولو كان ذلك على صحيفة مقروءة، والأسوأ من هذا أن ينتقي من عبارات المتحدثين والكتاب ما انقطع عن سياقه وحمل من التأويلات ما يجعله يحمل مخالفة للدين أو الآداب العامة، ثم تضخيم كل هذا، حتى ليشعر من يقرأ لهذه الفئة أو يسمع أحاديثهم أن المجتمع في طريقه للانسلاخ من الدين، وألا نظام فيه يردع الناس عن نشر الإلحاد، وما يزعم من جماعات التنصير، وكذا ما يزعم من اتهامات بذيئة لجماعات من أبناء هذه البلاد صنفوا من قبل هذا التيار بأنهم علمانيون أو ليبراليون من ارتكاب المحرمات كالزنا وشرب الخمر، أو العمالة للأجنبي، والغريب أن كل هذا يحدث منذ سنوات، وكم من حدث يزعم أنه وقع واتضح فيما بعد أنه لم يحدث أصلاً وشنع به هؤلاء وأربكوا به المجتمع، ولم يحاسب أحد منهم أحد، ولا قام العقلاء من أبناء الوطن بالمطالبة بالحد من هذا الإرجاف الذي ترتفع وتيرته، ويتزايد يوماً بعد يوم.. ونحن لا نقول إن مجتمعنا كله طاهر نقي لا تشوبه شائبة، فنحن مثل بقية البشر في مجتمعنا، فينا الصالح والطالح، وفيه من يُطع الله ومن يعصه، ومن قد يلحد أو يرتد، ولكنها حتماً ليست الظواهر الكبيرة المؤثرة، وإنما أحداث فردية تضخيمها بهذه الصورة ضار جداً بهذا المجتمع وبسمعته، بل وينشر البغضاء والكراهية بين أفراده، خاصة إذا نحا هذا الضجيج نحو التأكيد على أن مثل هذا المتحدث عنه من فساد أو إلحاد يستوطن مدينة من الوطن أو إقليماً، ودعوني أقول إن التيارين على خطأ كبير في حق الوطن وأهله، وأنهما من معوقات الإصلاح للأوضاع التي اختلت في مجتمعنا، فمثل هذا يصرف الأنظار عن أهم قضايا الوطن في المواطنة التي حتى يومنا هذا يجهل الكثيرون ما تعني، ويريد آخرون وضع قيود تحدها، والشأن العام اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً والذي يحتاج إلى مزيد من الجهود لإصلاح الخلل في مجالاته كلها، فهل نلتفت إلى هذا؟ هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.