المكان الذي ليس على وجه الأرض ما هو أقدس منه وأطهر مكة أم القرى، فهي أحب البقاع إلى الله وإلى رسوله- صلى الله عليه وسلم- فيها بيته الحرام، وفيها مشاعر لقاصده، يتعبد عندها بعبادة تمحو كل ذنوبه، إن أحسن أداءها على السنة مخلصاً لله، فالحج الذي لا يرفث فيه الحاج ولا يصخب ولا يجادل هو العبادة الوحيدة، التي تبرئه من كل الذنوب، حتى يعود من حجه كيوم ولدته أمه، لا ذنب له اصلاً، فالحج إلى الحج والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، وتواليهما تنفيان الفقر كما ورد بذلك الحديث، والمكان شاهد على هذه الرسالة الخالدة،
التي بعث بها خاتم الأنبياء وإمام الرسل سيدي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم – الذي أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، ومكة الأرض التي بدأ فيها دعوته، ومنها شع نور هدايته على العالمين، وهي والمدينة المدينتان المقدستان، اللتان لهما في قلوب المؤمنين بهذا الدين المكانة العظمى، إليهما تهفو الأفئدة، وترحل إلى ساحاتهما الأرواح يقظة ومناماً، تخفق القلوب بمحبتهما، وغاية أمانيهم أن يروهما ويعيشوا فيهما من الزمان ما أذن الله لهم فيه أن يعيشوا، يرون تلك الأراضي التي مشت أقدام خير خلق الله -صلى الله عليه وسلم- عليها، ومعه خيرة الناس ممن آمنوا معه وحملوا الرسالة إلى أقطار الأرض كلها، يدعون إلى دينهم بما يفعلون لا بما يقولون، فبغلوا بها الآفاق، وهدوا بها الخلق إلى خيري الدنيا والآخرة، صحبه الأخيار، الذين كانوا نجوماً يقتدى بهم، وهذه الأراضي المقدسة حيث ولدوا، وحيث تلقوا العلم عن خير معلم سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنهجوا نهجه، فهي مستودع تاريخ أمة الإسلام، الذي بعض صفحاته بيض ناصعة، مليئة بأمجاد هدى إليها الله، لا تعدلها من أمجاد البشر أمجاد ولا تماثلها، منبعها الإيمان ووسيلتها ما يهدي إليه من عمل بكل ما جاءت به الرسالة، وتبقى مكة تحكي للخلق مآثر هذه الأمة وأمجادها منذ العهد الأول عهد النبوة، وحتى أيام الناس هذه، وأمة الإسلام إن تاهت عن الطريق رجت أن تسلك إلى مكة طريقاً يهديها إلى دينها، ويصلح أمر دنياها، وهي إن تفرقت بحثت عن الألفة والوحدة في مكة وما حولها، وإن أرادت الإطلاع على تاريخها وجدته في أوديتها وشعابها وجبالها، وعلى أرضها بين الدور والحواري والمسالك، يطل التاريخ الباقي الخالد لنبي صنع مجد أمة، ولقوم مخلصين آزروه، ورفعوا راية دعوته، كل حبة تراب على هذه الأرض قصة نجاح مؤمن وعثرة مشرك، وانتصار حق وهزيمة باطل، سهر الأُلى من أهلها ومن آووا إليها، على حفظ تاريخ الأمة المسلمة بين جنباتها، رعوا الأماكن المهمة المرتبطة بأحداثه، هنا حيث ولد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهنا الشعب الذي فيه نشأ، وهنا البيت الذي فه تزوج، وفيه أنجب أولاده ذكوراً وإناثاً ما عدا سيدنا إبراهيم، وهنا المدرسة الأولى لدعوة الإسلام (دار الأرقم)، وهذه مشارف مكة حيث جبل علاه المصطفى وتحنث في غاره، وهذا جبل آخر اختفى فيه عن الأعين حين هجرته، وهنا عقد سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلح مع مشركي قومه وهكذا فالأحداث كثر ومواضعها معلومة، وإن ظن الجاهلون أنها اختفت، وقد استوفى بعض أهل مكة الأوفياء لها تاريخها، فوثقوا به تاريخ هذه الأمة، ورسموا الخرائط لمواقع آثارها ومآثرها، وها هو عالمها الجليل عضو هيئة كبار العلماء الأستاذ الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان يوالي الإشارات نحو حفظه آثارها، يتابع هذا الأمر دون كلل، وهذا مقاله الأخير الذي نشر على حلقات ثلاث عن أبواب المسجد الحرام، وفقه الله، وأثابه على عظيم جهوده العلمية المتلاحقة في حفظ مآثر الإسلام في أرضه ومنبع دعوته، وله منا دوماً الشكر والامتنان، حفظ الله مكة والمدينة من كل سوء رمزين للحق ودعوتين للخير قائمتين على مر الزمان، وهدانا إلى كل خير وصرفنا عن كل شر، فهو ما نرجو والله ولي التوفيق.