أما موضع البيت الذي أضاء مكة بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فيحدثنا عنه شيخنا الجليل أ.د.عبدالوهاب أبو سليمان في كتابه “مكتبة مكة المكرمة قديمًا وحديثًا…”
من عاش مثلي في أحب البقاع إلى الله «أم القرى» فغادرها زمنًا، ثم عاد إليها، ليرى أنه لا يستطيع السير في طرقاتها، لم يعد يعرف الكثير من أحيائها، لما نالها من الهدميات بقصد توسعة المسجد الحرام، وبقصد التيسير على القاصدين زيارتها من سائر الأقطار الإسلامية للحج والعمرة، وهو أمر مرغوب محمود، ولكن مكة المكرمة ليست مثل غيرها من المدن، فهي تزخر بالمواقع الأثرية المرتبطة بتاريخ بدء ظهور الإسلام ثم بحضارة منتمية إليه، وقد أزالت الهدميات البعض منها، وكان بالإمكان الإبقاء عليها وكان يمكن أيضًا أن يشار إلى ما أزيل منها ولو بلوحات تشير إلى موضعها إذا لم يكن بالإمكان الإبقاء عليها، وفي مكة -عمرّها الله- موضعان مرتبطان بحياة سيدي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- البيت الذي ولد فيه، والذي ظل معروفًا على مرّ القرون، وكذا بيت السيدة خديجة أم المؤمنين، الذي عاش فيه سيدنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- مدة بقائه بمكة قبل هجرته، وولد فيه أولاده بنين وبنات ما عدا سيدنا إبراهيم، الذي ولد في المدينة، وغاب الأخير عن مشهد مكة رغم أنه كان بالإمكان الإبقاء عليه فموضعه في الساحة الشرقية للمسجد الحرام وهو هناك، يمكن أن يستعاد بسهولة، أما موضع البيت الذي أضاء مكة بمولد النبي المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- فيحدثنا عنه شيخنا الجليل الأستاذ الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان أستاذ الفقه وأصوله وعضو هيئة كبار العلماء، ذو الأنشطة العلمية المتعددة في كتابه الذي عنونه (مكتبة مكة المكرمة قديمًا وحديثًا: دراسة موجزة لموقعها وتاريخها وأدواتها ومجموعاتها) وأخرجه لعشاق المعرفة في 463 صفحة، وطبعته مكتبة الملك فهد الوطنية في طبعته الثانية عام 1433هـ، وشيخنا الجليل المكي المولد والنشأة الحريص عمره كله على العيش في أم القرى، لا يغادرها إلا لمامًا في حالات ضرورة لا يلبث من الزمن إلا قليلاً ويعود إليها، يهتم بتاريخها وآثارها، ويخدم العلم فيها، مقتديًا بعلمائها الأفذاذ، خاصة منهم من أخذ عنه العلم ولازمه، وهو في هذا الكتاب كعادته يطرح توثيق الموقع بلونين من التواتر الذي يثبت أن هذا الموقع الذي تحتله الآن مكتبة مكة المكرمة في الجهة الشرقية للمسجد الحرام في شعب بني هاشم، والذي كان قبل الهدميات يسمى حي سوق الليل، وهو من أشهر الأحياء التاريخية بمكة المكرمة، وعلى مر السنين والقرون ازدحم هذا الحي التاريخي بالأحداث العظيمة ذات العلاقة بالدعوة الإسلامية منذ فجر الإسلام، يثبته بتواتر علمي ويقصد به: خير جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم عن محسوس، وهو يفيد العلم القطعي، وهذا التواتر العلمي جاء من مدونات السيرة النبوية، ومدونات التاريخ المكي، ويعدد المصادر في كل منهما، ثم يردف ذلك بالتواتر المحلي، ويعني ما تناقله أهل مكة من وجود هذا البيت في ذاك المكان ينقل ذلك جيل عن جيل، منذ عصر مولده -صلى الله عليه وسلم- وحتى يوم الناس هذا، ثم يسرد لنا قصة أسرة مكية عريقة حافظت على الأثرين أعني موضع مولده -عليه الصلاة والسلام-، والبيت الذي عاش فيه مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-، عائلة قطان وعلى رأسهم الشيخ الجليل عباس بن يوسف القطان، وأخته السيدة الفاضلة فاطمة بنت يوسف قطان -رحمهما الله وأسكنهما فسيح الجنان- فبني في موضع المولد مكتبة مكة المكرمة، وفي موضع دار خديجة -رضي الله عنها- مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم للمحافظة على الأثرين، وبإذن سامٍ من موحد أقاليم هذا الوطن جلالة الملك عبدالعزيز -رحمه الله-وفي هذا الكتاب أيضًا حدثنا شيخنا الجليل أمد الله في عمره، عن المكتبة وأهميتها وما تقوم به من مهمة سامية بالحفاظ على تراث علماء مكة المكرمة العلمي، مطبوعًا ومخطوطًا، في أقسام ستة أولها: تحدث فيه عن الموقع وما نال من الاهتمام عبر كل العصور الإسلامية، ثم تحدث عن المكتبة حديثًا، بدأه، بفصل مهم جدًا تحدث فيه عن موقف علماء السلف ومقترحاتهم من إحياء مكان ولادة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم تحدث عن المكتبة إداريًا فدون ارتباطاتها ومصادر تزويدها وإسهام المواطنين في ذلك، ثم تحدث عن مكتبات الأفراد التي أهديت إليها ومجموعاتها الخاصة، ثم تحدث في القسم الخامس عن المخطوطات الموجودة فيها وهو في نظري من أهم أقسام الكتاب، فيه الإشارة إلى ما خطته أيدي مشايخنا في الحرم المكي الشريف من مؤلفات، لا تزال إلى اليوم، ونرجو أن ينشط الباحثون الشباب من أبنائنا، في تحقيق هذه المخطوطات وإعدادها لتطبع وتصل إلى أيدي القراء فنكون بذلك قد وفينا لهم، وهم الذين أمدوا أمثالنا من كبار السن بالعلم قبل أن نعرف الدراسة الأكاديمية وبعدها، فلهم في أعناقنا حقوق كان من الواجب علينا أن نؤديها لهم، وقلّ منا من أداها لهم بإخلاص، ثم تحدث في القسم الأخير من الكتاب عن نشاط المكتبة في خدمة الباحثين والتعاون مع المكتبات والمؤسسات العلمية، والمشاركة في معارض المخطوطات ثم عدد اللواحق في نهاية الكتاب عن المخطوطات ونماذجها والمطبوعات وتنويعها، ولا أظن قارئًا يقع في يده هذا الكتاب ويتركه قبل أن يتمه.. فشكرًا لشيخنا الجليل حفظه الله وسدد خطاه.