إننا في أمسّ الحاجة إلى أن نتوقف عن الاشتغال بالمسائل الفرعية المختلف عليها، ونتّجه إلى قضايا الوطن الأكثـر أهمية..
حذّر العلماء من أن يؤدّي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما هو منكر أشد، حينما يخطئ المحتسب فيثير باحتسابه فتنة، لأنه لم يدرك الواقع الذي يتعامل معه، ومن أمثلة هذا الاحتساب الذي يفقد البوصلة، هو أن يتوجّه المحتسب إلى المقابر مثلاً ليعظ مَن فقدوا حبيبًا لهم، وحزنوا لفقده، وهم في حال وداعه ودفنه بعد أن توفاه الله، فإذا رآهم وهم يحملون نعش قريبهم يرددون: لا إله إلا الله، اتبعهم لينهاهم عن ذلك؛ لأنه يراه بدعة، وإذا حفّوا بقبر فقيدهم، فقرأ أحدهم سورة «يس»، أو أي سورة أخرى، أو لقنوا ميّتهم اعترض عليهم وزعم أن كل هذا بدعة، وإذا اجتمعوا لتقبل العزاء والمواساة جاء ليعترض على أن الجلوس للعزاء بدعة، فإذا وجد من يقرأ القرآن أثناء العزاء ليصغى الناس إلى تلاوة القرآن الكريم، حتى لا ينشغلوا بأحاديث دنيوية في مناسبة كهذه نهاهم عن ذلك، وكم من مرة حدثت مشادات بين مَن ينهي وأهل الميت والمعزين قد تتطور لما لم تُحمد عقباه، والأمر هيّن فهذه كلها من مسائل الفروع التي وقع فيها الاختلاف، كما هو الحال في ما يصل ثوابه إلى الموتى من ثواب بعض العبادات كالتلاوة، كأن يهب الأحياء ثواب قراءتهم للقرآن لميتهم، كما يصنع الناس في مدننا وقرانا في هذه المنطقة من قراءة أجزاء القرآن الثلاثين ليلة ثالث العزاء، ومثل قضاء الصوم عن الميت، أو الصلاة عنه، والصدقة بنية أن ثوابها له، كذا الحج والعمرة، وجمهور الفقهاء، والأصوليون لا يرون الإنكار فيما ساغ فيه الاختلاف، ومَن قلّد عالمًا لا تثريب عليه، وأظن أننا قد مضى علينا زمن طويل، ونحن نردد اختلافات كان من الممكن تجنبها، لأن المختلف فيه قد حدث فيها النزاع قديمًا وحديثًا، وليست مسألة كفر وإيمان، وإنما مجالها بين التخطئة والتصويب، ولا يدّعي أحد أبدًا أن الصواب هو قوله وحده، مادام الأمر لا نص فيه قاطع ولا إجماع، والاجتهاد يكون فيه الصواب والخطأ، والإثم مرفوع عن العالم المجتهد وإن أخطأ، ونقل المسائل الفرعية إلى مجال العقائد أمر غير محمود، ولا أظن أن من مهام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المسائل الفرعية، وإجبار الناس على رأي مذهب واحد، أو رأي عالم محدد، أو جماعة من العلماء لهم من العلماء مثلهم مخالفون لهم في ذلك، وقد رأينا أنه قد خفت حدة الاعتراض على هذه المسائل المختلف عليها التي ذكرنا، خاصة ما يتعلق بأحوال دفن الموتى، والعزاء لأهليهم، ولم نعد نسمع أحدًا يقتحم حزن الناس بالاعتراض عليهم، إلاّ أنه قد وافتنا الأخبار بأن أحد رجال الهيئة اقتحم عزاء بمكة ليعترض على وجود قارئ للقرآن في هذا العزاء، وثار جدل بينه وبين أهل الميت ومعزيهم، ممّا أثار سخطهم، وإذا كان هذا الخبر صحيحًا، فإن تراجعًا قد حدث، في عهد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجديد، والذي نحن ننتظر صدور نظام جديد لها يضبط حركة منسوبيها، ويعرف الناس بعملها بصورة ترفع اللبس عنها، وتحدد مهام أعضائها، خاصة منهم من يعملون في الميدان ويحتكون يوميًّا مع الناس، حتى لا يكون الأمر بالمعروف يؤول إلى أمر يحدث منه منكر، ولا يكون النهي عن المنكر منكرًا أشد، وأظن أن من المهام التي يجب أن تلقى على عاتق الهيئة، أن يعهد إليها ملاحقة مَن يتطوعون بالحسبة فيقع من تطوعهم الكثير من الأخطاء، مثل هؤلاء الذين يتسللون إلى الأفراح فيعظون الفرحين بزواج يزفون فيه زوجة إلى زوجها، فيبتدعون لهم موعظة تذكرهم بالنار وعذابها، فتقلب ليلة فرحهم إلى حزن، وهو الأمر الذي لا أصل له في الشريعة، أو هؤلاء الذين يتوجهون إلى الأماكن التي تقام فيها أنشطة ثقافية كالنوادي الأدبية أو الكليات الخاصة، أو ما أذن له بإقامة أنشطة علمية وثقافية وأدبية، يعترضون عليها، ويفسدون ما خطط له من فعاليات، فتحسب على هؤلاء المحتسبين تطوعًا بأساليب بعيدة جدًّا عن أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما حددته النصوص الشرعية، ومقاصد الشرع، بل ويجب أن تحتسب على هؤلاء الذين يطلقون ألسنتهم في انتقاص الخلق وغيبتهم، وإلقاء التهم عليهم جزافًا كهؤلاء الذين يهاجمون الصحف وكتّابها، وأن تحتسب لمن يفتون بقتل مَن يرون أنهم وقعوا في أخطاء دينية، فيتبرع مَن يفتي بردتهم ويدعو إلى قتلهم، وأن تحتسب على هؤلاء الذين ينظرون للعنف، ويتولون غسل أذهان أبناء الوطن، ويلقون بهم في أتون حروب خارج الوطن، كهؤلاء الذين دفعوا سعوديين للسفر إلى العراق، وهم اليوم في سجون العراق ينتظر أكثرهم الإعدام بين الحين والآخر، ولن أقول الاحتساب على المظالم، وقضايا أخرى مهمة للوطن والمواطنين، إننا يا سادتي في أمسّ الحاجة إلى أن نتوقف عن الاشتغال بالمسائل الفرعية المختلف عليها، ونتجه إلى قضايا الوطن الأكثر أهمية، فهو ما نرجو، والله ولي التوفيق.