هؤلاء الذين يشقون على الناس, يجعلونهم يُصابون بإحباط شديد, خاصة إذا شكوا, ولا يُعاقب مَن قصّر في شأنهم.
إن كل من يلي منصبًا هامًّا, أو وظيفة عمومية, فوظيفته الأساسية خدمة الوطن والمواطنين, وكل مَن يتخلّى عن هذه المهمة السامية, ويعرض عن مصالح المواطنين, سيندم حتمًا, وقبل أن يغادر موقعه, ولابد وأن يكتشف أمره بسهولة, وكم من مسؤول يضرب صفحًا عن كل مصالح المواطنين, فيظهر للجميع عوار مسلكه, وتبدأ الشكاوى من مسلكه هذا تتكاثر ويعلم بها الناس مهما حاول أن يخفي شأنها, وقد لا يغادر منصبه سريعًا, لكنه يفقد احترام مواطنيه له, لأنه لا يهتم بشأنهم, وقد يشق عليهم فلا يحصلون على حقوقهم, كما أنه سيفقد التوفيق في حياته, فسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو على مثله, حيث يقول: (اللهم مَن ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقق عليه, ومَن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفقَ بهم فارفق به), وهذا ما يلاحظه الناس, فكل مسؤول, أو موظف لا يهتم بمصالح الخلق, ولا يحققها لهم, يفارقه التوفيق في كل ما يقوم به جزاءً وفاقًا, وكل من خلقه الرفق بعباد الله, يعينهم ويسهل لهم كل السبل أن يحصلوا على حقوقهم المشروعة, علينا أن ندرك أنه يوفق بأعماله, إنما هو دليل رضا الله على ما يقدمه لوطنه والمواطنين من عمل طيب, يراعي إخوانه, لا يضع في طريق حصولهم على حقوقهم العراقيل, بدعوى أن الروتين الإداري حال دون ذلك, أو أن هناك عوائق نظامية تحول دون ذلك, ممّا يراه بفهم سقيم للنظام, فالذي لا يرضى أن يتم أوراق فقير مستحق للضمان الاجتماعي ما لم يحضر إليه في المكتب, كما روى أستاذنا الكاتب محمد الفايدي, عن سيدة ظلت طريحة الفراش ثلاثين سنة؛ بسبب إصاباتها بشلل رباعي, فيصر موظف الضمان الاجتماعي على أن تحضر إليه في المكتب من أجل الحصول على حقها في الضمان, وهذه اللجنة التي تقرر أن علاج مريض بمرض مستعصٍ موجود في مستشفيات وزارة الصحة, والواقع ينفي هذا, فلا تعطيه الحق في العلاج في الخارج, وكم من مريض من أجل هذا السبب باع بيته الذي يسكنه, من أجل أن يبحث عن العلاج في الخارج, وكأن الدولة تبخل على مواطنيها بالإنفاق عليهم حين المرض, وهذا الذي يراجع إدارة بلدية من أجل ترميم مسكنه, فوجد في الأنظمة ما يحول بينه وبين تحقيق رغبته, وهو لا يملك من المال ما يستطيع به أن يهدم مسكنه, ويعيد بناءه.
فهؤلاء الذين يشقون على الناس يجعلونهم يُصابون بإحباط شديد, خاصة إذا شكوا ولم يُعاقب مّن قصّر في شأنهم وأضاع حقوقهم, ولن نستطيع أن نوفر للناس العدل إلاّ إذا ألزم كل موظف مسؤول بقضاء حوائج الناس, وإيصال حقوقهم التي اؤتمن عليها إليهم, وإذا عوقب كل من خالف ذلك, وأن نكافأ كل من رفق بالمواطنين, وسهّل لهم الطريق للوصول إلى حقوقهم المشروعة وأحسن إليهم, بل إن مثله يظل مواطنوه على علاقة وثيقة به حتى بعد تركه الوظيفة, وكم تختزن الذاكرة لمثل هؤلاء من محبة وود وشكر تلهج به الألسنة لما قدموا من خدمات جلى لوطنهم ومواطنيهم, هم القوم لايشقون بما فعلوا, وكم تختزن الذاكرة من قصص لهؤلاء الذين لم يحسنوا إلى بلدهم ومواطنيهم, والذين كانوا يضعون من العراقيل ما يحول بين الناس وحقوقهم, فما أن يتركوا وظائفهم, حتى لا يُذكروا إلاّ بالمساوئ وتنقطع صلاتهم بالناس, وكم رأينا منهم من لا يسأل عنه الناس حتى في حالة مرضه واحتياجه للناس من حوله, وكأن المجتمع يعاقبهم عن كل ما بدر منهم نحو الوطن وأهله, ألا يعلموا أن خدمة وطنهم ومواطنيهم شرف لهم, يثيبهم الله عليها, فما جزاء الإحسان إلا إحسان أعظم منه, ممن بيده ملكوت كل شيء, وهو من يجزل العطاء لمن امتلأ صدره محبة للناس ومودة, وأقبل عليهم وهو يشعر أنه مسؤول عنهم, بواقع ما كلف به من وظيفة, وهي خدمة لهم, يقول ابن القيم رحمه الله (من رفق بعباد الله رفق الله به, ومن رحمهم رحمه الله, ومن جاد عليهم جاد الله عليه, ومن نفعهم نفعه, ومن سترهم ستره, ومن منعهم خيره منعه خيره, ومن عامل خلقه بصفة, عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة, فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه), وقول الشيخ بناه على معرفة دينية عميقة, وعلى تجارب في هذه الدنيا لاحظها, والمسلم الذي يتقي ربه, هو من يريد الخير لجميع خلقه, همّه أن ينفعهم لا أن يكون سببًا في الإضرار بهم, فمتى ما صلح حال العبد مع الله صلح ما بينه وبين الناس, فهل ندرك هذا مَن نعمل في أجهزة الدولة, ومَن لا يعمل إننا لو أدركناه لصلح حال مجتمعنا كله, فهل نفعل؟ هو ما أرجوه, والله ولي التوفيق.