نقد الشيء يستلزم العلم به

انتقد الإمام أبوحامد الغزالي -يرحمه الله- في كتابه الرائع: «المنقذ من الضلال، والموصل إلى ذي العزة والجلال» المتكلمين في نقدهم للفلسفة فقال: (ثم إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة، وعلمت يقينًا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة، وإذ ذاك يكون ما يدعيه من فساد حقًا، ولم أرَ من علماء الإسلام من صرف عنايته وهمته إلى ذلك.
ولم يكن من كلام المتكلمين من كلامهم، حيث اشتغلوا بالرد عليهم إلا كلمات معقدة مبددة، ظاهرة التناقض والفساد، لا يظن المغتر بها بعاقل عامي، فضلا عمن يدعي دقائق العلوم، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه، والاطلاع على كنهه رمي في عماية، ثم قال: فشمرت عن ساق الجد، في تحصيل ذلك العلم (الفلسفة)، أ. هـ، وهذه نظرية صحيحة، فمن يريد أن ينتقد علمًا لابد له من أن يدرس هذا العلم حتى يبرز فيه، ويطلع على كل حقائقه، فإذا تم له ذلك جاء نقده مبنيًا على علم لا على جهل، ودراسة الإمام الغزالي للفلسفة أنتجت رده على الفلاسفة في كتابه: «تهافت الفلاسفة»، والنقد في زماننا للعلوم هو كما وصف الإمام، نقد المتكلمين أي علماء الكلام (أو علم التوحيد)، للفلسفة دون أن يطلعوا عليها ويسبروا غورها، فجاءت ردودهم على الفلاسفة كما وصف متناقضة فاسدة.
فكثيرًا ممن لا علم لهم أصلا بالعلوم الدينية حاولوا ممارسة نقدها فجاء كلامهم متناقضا فاسدًا لا قيمة له، وأكثرهم ردد ما قيل من قبل أمثاله لثقته الموهومة بهم، فإذا به يسقط مصداقيته بما فعل، لأنه أحيانًا كثيرةً ينتقد ما ليس من تلك العلوم وغرّه النقل عن غيره، أو أنه فهمه فهمًا خاطئاً بالكلية، وقد كنت قبل سنوات ولا أزال أقول لبعض أبنائي الشباب: لا تنتقدوا ما لا تعرفونه ولم تعلموا به، فضرر ذلك عليكم عظيم، فلم يسمع مني بعضهم النصيحة، فكان من نتائج ذلك أن تعاظمت أخطاؤهم وأدت بهم إلى انهيار تام، وقديما قالوا: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، واليوم نسمع من العجائب ألوانًا، فمثلًا نسمع من رجل ناضج يقول: إن قول الله عز وجل: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًا كَبِيرًا)، يفسره كما زعم قول الله عز وجل: (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فصور له ذهنه الكليل أن كلمة ننشز في النصين، أحدهما له معنى حمل الفقهاء عليه حكم نشوز المرأة فظلموها مع أن النشوز في الآية الثانية له معنى مختلف في وهمه، زعم أنه الضم والجمع، فأداه ذلك أن يعترض على ما جاء تشريعًا في كتاب الله لجهله باللغة والدين معا، والنشوز في الآيتين الارتفاع، ففي الأولى معناه: استعلاء المرأة على زوجها وارتفاعها عن فراشه فتمتنع عن حقوقه التي شرعها الله له، وأما في الآية الثانية فمعناه: نرفعها (أي العظام) فنركب بعضها فوق بعض، والرجل لم يرجع إلى أي كتاب تفسير ولا حتى معجم لغوي أو قاموس، وتجرأ بنقد يضحك، ولا يمكن أن يصدر من إنسان عرف ما يتحدث عنه، ومن هنا قلنا ونقول دومًا لكل من يريد انتقاد علم: اعلم به أولاً ثم انتقد، ولا تُعرِّض نفسك لمثل هذا، آملين دومًا أن تقبل النصيحة ممن لا يريد إلا خيرًا لإخوانه، فكلنا خطاؤون وخير الخطائين التوابون، عفا الله عني وعن هؤلاء المجادلين بغير علم، وأن يردهم إلى الصواب، فهو ما أسعى إليه، والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: