النفس المريضة تجعل صاحبها لا يرى الحق وهو ظاهر بيّن، وتذهب مسرعة بصاحبها إلى الباطل لأنها تهواه..
اعتنى علماء الإسلام بأمراض النفوس, وأظنهم أول من كتبوا عنها قبل أن يظهر علم النفس في صورته الحديثة, ولا يعيب كتاباتهم تلك أنها اتخذت الطابع الديني فالوسوسة والقلق والحسد والحقد والبغض والكراهية والغرور والشعور بالنقص, كل هذا من أمراض النفس ذات التأثير البالغ فيها, والتي إن لم تعالج فتكت بالنفس, وقد تورث أمراضاً عضوية تدمرها, ومنها مرضان متلازمان هما الحقد والحسد, وقد يكونا السبب لإصابة النفس بهما شعور خفي بالغ بالنقص, والتجربة في الحياة لمن ألقى السمع وهو شاهد, ذو بصر وبصيرة, ولعلنا في ساحة الصحافة والاعلام ثم الثقافة عموما قد أبتلينا بمرضى نفوس, استفحلت أمراضهم, ولم يعد لها أن تفارق نفوسهم, وكأنهم قد طبعوا عليها, وتجد لمثل هؤلاء نشاطا يبرز بين الحين والآخر, في صحيفة ما أو قناة فضائية ما, حيث يجدون لهم في تلك الصحيفة أو القناة أعوانا ممن أصابهم نفس الداء, أم أنهم لم يدركوا أمراضهم وما ينتج عنها من إيذاء بالغ لأنفسهم والآخرين ممن يستهدفونهم عبر حسدهم وحقدهم المترجم بخبث على أنه نقد وما أنشئت وسائل الإعلام إلا له!, فهذا الذي يتابع كاتبا لمجرد أنه لم يقم بإضافة مقال في كتاب أعده للنشر لرمز وطني, لأنه لم يشترط فيما أعد أن ينشر كل المقالات التي كتبت عن ذاك الرمز, فيظل يعاود الكرة المرة بعد الأخرى بنقد غير نزيه بل وظاهره الفجاجة الغالبة, فإذا رد عليه الكاتب بما هو الحق, زاد حسداً له وحقدًا, فتوارى عنه زمنًا, حتى إذا نسي الناس فعله القبيح, عاد له مرة أخرى بسوء تقدير فإذا رد عليه, توارى مرة أخرى زمنا ليس باليسير حتى أن الكاتب المنتقد نسي هذا الحاسد الحاقد, فإذا به يظهر فجأة على قناة فضائية وهو في بلد أوروبي, بشكل لافت للنظر مرتديا بدلة داكنة اللون وببيونا أصفر صارخ اللون, وقد امتلأ جسده حتى كأنه تمدد بعرض الشاشة كلها, ليدعي أنه من ذوي الدخل المحدود, وهو دائما يدعي الفقر, رغم أنه لا يغيب عن بلد أوروبي يهواه, فأسفاره إليه المكلفة تتكرر في العام عدة مرات, وإذا به يتذكر مرضه القديم, فتهيج نفسه المريضة, عندما يسمع اسم هذا الكاتب, والذي طلب منه أن يعلق على مقال له, فيترك المقال وما طرحه كاتبه, ليتولى الحديث عن الكاتب بشيء من السوء اشتهر به عندما يغدر بأصدقائه ولا مبرر له, فالكاتب لا يعجبه لأنه فقيه, ولأنه أمضى عمره معلمًا, ولأن أسلوبه كما زعم تراثي وهو يكره التراث وأهله, ولأن مقالاته طويلة, رغم أن الصحف اليوم لا تنشر من المقالات إلا ماكان محدود الكلمات, وما كان يوما طول المقالات أو قصرها معيارًا لجودتها أو ضعفها وإنما المعيار جودة ما تعرضه من أفكار, لكن مرضى النفوس لا يدركون, ويزعم أنه دائما يدعو أن يتبعه الكتاب فيما يفعل فتكون مقالاتهم قصيرة على فقرات متناثرة ليملأ بها عمودًا, رغم أنها لا تحمل فكرًا ولا تطرح موضوعًا شيقا يتابعه الناس, ثم يرى من عيوب الكاتب أنه يجيد تتبع الحوادث والوقائع ويعلق عليها, وهل الصحفي الناجح إلا هذا, ولكن مرضى النفوس لا يعقلون, بل لم يترك مما يميز هذا الكاتب ويجذب إليه القراء ويجعل العقلاء منهم يتابعونه ويرون في مقالاته ما يخدم الفكر والعلم إلا وجعله عيبا, ولكن المريض يجد الماء الزلال العذب مرًًا, ثم يدعي دعوى باطلة أن الكاتب لا يدعم أفكاره بحجة وبرهان, وهو كاذب في هذا, فما شهد الكاتب إلا بإقامة الدليل على ما يكتب إذا كتب في أي موضوع شرعي يحتاج إلى الدليل, ولكن النفس المريضة تجعل صاحبها لا يرى الحق وهو ظاهر بيّن, وتذهب مسرعة بصاحبها إلى الباطل لأنها تهواه, وهذا المريض قد حاول النجاح في مجالات عدة وفشل, أراد أن يكون شاعرًا وهو لا يملك الموهبة ففشل, ثم أراد أن يكون أديبًا ناقدًا فلم يستطع, ثم أراد أن يكون كاتبًا ساخرًا, ولهذا اللون من الكتابة معايير وشروط مثله يغفل عنها, لذا فشل أيضا ولم يلتحق بنجوم هذا الفن من الكتابة الصحفية, فآثر الفشل في نفسه فشعر بالنقص, ولهذا لا يجد ناجحًا إلا وحاول الهجوم عليه, وحتى هذا التخصص فشل فيه فشلًا ذريعًا, ذلك أن محاولاته هذه تأتي دومًا بنقيض ما يرغب فيزداد مرض نفسه ويستحكم, حتى أنه شهر بين أصدقائه بأنه الغادر, الذي لا يفي لأحد منهم, فكم من مرة فاجأ صديقا له بنقد غث فج كهذا, حتى كاد ألا يجد صديقا, فالحمدلله الذي حصن بعض خلقه من أمراض النفوس, فأحبوا الخلق كلهم, وعرفوا لهم أقدارهم وكانوا على تواصل دوما بأهل وطنهم يرعون لهم الحقوق, وديدنهم في كل حال الدفاع عنهم, من عرفوا منهم ومن لم يعرفوا, وللمبدعين منهم وأهل الفكر والعلم والثقافة عموما وفاء خاص بما قدموا, وحتما لا يعنيهم مرضى النفوس, إلا أن يدعوا لهم بالشفاء العاجل ليرحمهم الله وليرحموا خلقه من أذاهم, فهو ما نرجو والله ولي التوفيق.