لعل لأسرتي التي نشأت فيها عظيم الأثر في نفسي، فقد كان في سلفها من الأحباب الذين ظل حُبّهم لوطنهم راسخًا في نفوسهم، فخرهم به لا مزيد عليه، وأمانيهم له لا حدود لها، بل لعلي أقول: إن بهم شبهًا بالأسماك، التي لا تعيش إلا في الماء، وإن أُخرجت منه هلكت، وكان بعض مرضاها يبذل لهم أن يُعالجوا في أحسن بلدان العالم خبرات طبية وهم في أشد الحاجة للعلاج لمرض ألمّ بهم، ففَّضلوا أن يبقوا في وطنهم، خشية أن يأتيهم الأجل وهم خارجه، ولا أشك قط أن محبة الوطن من حسن التديُّن، والوطن حبّه لا يعني فقط أن تكنّ له في قلبك عظيم الحب، بل إن تعمل له ما أتيحت لك الفرصة أن تعمل، وأن تعين من يعملون للنهضة به، لأن عملهم هو الذي تسعى إليه دومًا، وأعيب على كل ذي رأي وعلم وخبرة يُطلب لخدمة وطنه فلا يلبي هذا الطلب، ولا أظن أن لك عذرًا مقبولًا عند العقلاء، وإذا لم يعن على ذلك بذل جهده في النصح بما ينهض بوطنه ما أمكنه ذلك، ولكني أرى حينًا متقاعسين عن خدمة الوطن بأعذار واهية، خاصة منهم الساعين إلى المناصب، فإذا لم يصلوها انسلخوا عن الوطن، وسمعت في أقوالهم نبرة الحط عليه لمجرد أنهم لم يصلوا إلى ما أملوا، وهؤلاء صنف من الناس وُجدوا في سائر أوطان البشر، لا همّ لهم إلا مصالحهم الخاصة، وما يعود عليهم بالنفع، ولو أدى هذا أحيانًا أن يُحمِّلوا الوطن أضرارًا هو في غنى عنها، فكم تمنيت ألا أرى من مثل هؤلاء أحدًا في المكان الذي فيه يستطيع الضرر، وتمنيت أن يصل كل مخلص واع بمصالح الوطن -وبما ينهض به الوطن، ولديه الكفاءة والقدرة على خدمة الوطن- إلى المنصب الذي يستطيع من خلاله أن ينفع الوطن وأهله، وأجدني شديد الاكتئاب حينما أرى من لا همّ له سوى الإضرار بالوطن ما دام يستطيع، وتمنيت له أن يكون في المكان الذي به يليق، وأنا على يقينٍ ثابت بأن الأوطان لا يحميها حين الظروف الصعبة ولا ينهض بها إذا تأخَّرت في بعض أحوالها، إلا المخلصون من أهلها، ممن أعدوا أنفسهم بالعلم والخبرة ليكونوا جنودًا للوطن حين يدعوهم للعمل له، فإذا لم أرهم في الموضع الذي يستفاد منهم فيه فإن هذا ما يحزنني، وكلما رأيت خاملًا لا يُستفاد منه بشيء يتسلَّق ليكون في أول الصفوف يدّعي خدمة الوطن، وهو لجهله وضعف قدراته يضرُّ بالوطن الضرر البالغ ضاق صدري، وحينما أسمع مَن عرفته قليل العلم والدراية يتبوَّأ مكانة ليست له، سألت الله ألا يضرُّ بالوطن وأهله.
اهدوا وطنكم أذكياء أبنائكم بعد أن تربّوهم على حُبِّ وطنهم والإخلاص له، فهم مَن سينهضون به ويرفعون رايته، فهل أنتم فاعلون؟ هو ما أرجو.. والله ولي التوفيق.
Check Also
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …