حدَّثتكم في مقالي يوم السبت الماضي، عن نوعٍ من المشايخ يُربّون تلاميذهم على ما يُبقي لهم أثرًا بعد الرحيل، وقد سعدنا في ماضينا بأشياخٍ قدّموا لنا العلم كله غير منقوص، فعرّفونا على علومٍ هي اليوم عند البعض من المُحرَّمات، عشتُ مرحلة كان فيها معاهد للعلم تسامَحَتْ في عرض الاختلاف الفقهي بين المذاهب، ورسَّخَت العلم بكل ألوانه في عقول تلاميذها، فقد التحقتُ بدار التوحيد بالطائف، التي أنشأها الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، ليكون المتخرجون منها، عونا للوطن في كل مجالات العمل الإداري والثقافي والعلمي، وكان بها نخبة من علماء الأزهر الأفاضل، الذي رأيناهم فيما بعد في أعلى المناصب العلمية بالأزهر الشريف، وكنا نلتحق بالدار صغارًا بعد حصولنا على الشهادة الابتدائية مباشرة، ونقضي فيها خمس سنوات متوالية تُمثِّل المرحلة المتوسطة والثانوية، وندرس العلوم الشرعية والعلوم العربية مع علوم عامة، كالجغرافيا والتاريخ، وشيء من الرياضيات والعلوم، لكن صلب الدراسة كان ينصبُّ على العلوم الدينية والعربية، وكانت المقررات التي تدرس في الدار هي كتب أصلية في تلك العلوم، تحتاج إلى كثير من الشروح، والإيضاح، ورسوخ العلم، وكانت الدراسة متعة حقيقية ترقى بنا من سن الطفولة والمراهقة إلى ما هو أعلى بكثير من هذا السن، وتوسع المدارك، ولمّا كان المعلمون على قدر كبير من العلم والدراية، فقد كانت الاستفادة منهم أعلى مستوى من الدراسة في غير هذا المعهد، الذي يُؤهّل التلاميذ فيه لسلوك طريق العلم الشاق بيسرٍ وسهولة، يعرفهم على مصادر العلم وطرائق البحث فيها، زد على هذا سعة علم المعلمين الذين لم يكتفوا بالمناهج المقررة فقط، بل سدّوا النقص فيها بتعريف تلاميذهم علومًا أخرى -لمن أراد منهم- ليزيد قدرته على فهم العلوم الأصلية، فعرّفونا على علم المنطق، وشيء عن الفلسفة الإسلامية، والتعمّق في علم البلاغة خاصة باب الحقيقة والمجاز، ولازلتُ أذكر بعض أشياخنا في هذه المرحلة، وعظيم قدراتهم العلمية، ممّا جعل بعضنا يرتبط بهم حتى بعد انتهاء دراسته، بل وتعرّفنا من خلالهم على علماء بارزين في العلوم التي ندرسها، كان لهم فيما بعد الأثر العظيم في متابعتنا لتلك العلوم وما ينتج عنها، وإذا كان هذا الدين الحنيف هو أعظم ما يكتسب العبد العلم به والعمل بما علم، فقد كان صحة ما تعلّمنا السبب في اجتيازنا مشكلات الحياة باتباعنا أحكام هذا الدّين، ممّا ضبط حياتنا بميزان الحق والعدل، فالحمد لله الذي منّ علينا بذلك، وإنا لندعو لمَن علّمونا بالليل والنهار أن يجزل الله لهم المثوبة على ما بذلوا من جهدٍ في تعليمنا الخير، إنه سميع عليم.