لن تعيد مثل هذه التنظيرات الوهج للغتنا، فلنبحث إذن عن جهود علمية حقيقية لإحيائها مرة أخرى لتكون لغة العلم والمعرفة
لا أشك أن أحداً يظن أن اللغة العربية في موطنها الأول «الجزيرة العربية» لا تعاني الضعف, وأهلها المتحدثون بها نسوا مفرداتها «نحوها» و»صرفها» وأغرموا بلغات أخر غيرها, حتى كان أحدهم إذا أدخل إلى لغته ألفاظاً من اللغة الأخرى لم تعرف بأيهما يتحدث, لم يستطع اكتساب اللغة الجديدة, ولم يحسن أداء لغته الأصلية, وإذا كان لكل لغة حراس يمنعون عنها الضعف, فأضعف حراس وجدوا لهذه اللغة العربية, التي ظللنا أمداً طويلاً نفخر بأنها لغة القرآن, ولكن حتى قراؤه لا يجيدون النطق بها خارج التلاوة, وإذا كان حراسها في التعليم العام والجامعة, فهم من فرطوا فيها فضعفهم انعكس عليها فضعفت لضعفهم وأضاعوها كما أضاعوا طلابهم, فالضعف الذي لحقهم واضح جلي, وأثرهم ظاهر على اللغة, وهم يدعون أنهم حفظتها الذين يحرسونها من الضعف فأنت تجد أحدهم يخطئ فيها لغة ونحواً وصرفاً, ولا نجد لأساتذتها في الجامعات اجتهادات مضيئة ترفع من شأنها, ثم ينادون بيوم عالمي للغة العربية, وكأن الأيام العالمية تقوي القضايا وتحل مشكلاتها, وهم يعلمون أن معظم قضايا العالم لها أيام للحرية يوم, وهي تكاد تكون مفقودة في معظم دول العالم, ولحقوق الإنسان يوم وعدد الدول التي تنتهكها هي الأكبر عدداً من تلك التي توفرها للبشر, وللمرأة يوم وحقوقها في كثير من دول العالم مهدرة, ولن يحفظ اللغة العربية يوم وإن احتفل به العالم كله, وهم يطالبون بمجمع للغة العربية في ديارهم, وهم يعلمون يقيناً أن ليس فيها ممن يستحقون أن يكونوا أعضاء في هذا المجمع إلا نزر يسير لا يمكنه أن يقوم على مجمع يوكل إليه أمر اللغة, ولكنهم يكثرون المطالب دون أن يقدموا لهذه اللغة شيئاً مذكوراً, وأولئك النفر الذين كان لهم كفاءة ملحوظة اخترمهم الزمان بالوفاة أوالشيخوخة وأخذت تتلفت حولك فلا تجد أحداً تشير إليه بالقول إنه كفؤ لذاك, وهذا أول عام نحتفل فيه بهذا اليوم الذي أسميناه عالمياً, ولم يحس أحد في العالم به سوانا, ما جلب لنا سوى تنظيراتٍ من لون ما جرى مساء يوم الأربعاء 15/2/1435هـ في نادي جدة الثقافي والأدبي, فقد عقدت فيه ندوة بمناسبة هذا اليوم المسمى عالمياً, عنوانها «التخطيط اللغوي»مقاربات في التنظير والتطبيق» شارك فيها أستاذان من أساتذة اللغة العربية في جامعتين من جامعاتنا, وإدارة ثالث لهما من الأساتذة, فتحدث الأول عن التخطيط اللغوي المزعوم, فإذا به لا يزيد عن خوف شديد على اللغة العربية من تعلم أبنائها للغات أخرى واستعمالها لها, وخوف حتى من الوافدين غير العرب الذين ملأوا البلاد ليقوموا بأعمال مختلفة داخل المنازل وخارجها وهم لا يحسنون العربية, ويؤثرون كما رأى المحاضر على لغتنا, ثم جاء في السياق ما كنا نسمعه من أساتذتنا من الحث على استعمال الفصحى والعناية بها, ولا شيء أكثر من ذلك, فغاب التخطيط مصطلحاً ودلالة, وكان من المفترض أن يسد المشارك الثاني ثغرة هامة في تطبيق ما نظره له الأول, ولأنه لم ينظر فما كان من الآخر إلا أن سد الثغرتين معاً فنظر ما يجب أن يكون عليه التخطيط, وكيف يكون التطبيق, وأطلق أسئلة لا حصر لها حول هذا.. الإجابة عليها وإن كانت بالنفي أو بلا كما أجاب هو إلا أنها تثير من القضايا الكثير, من هذه الأسئلة التي اطلقت هل لدينا تخطيط لغوي؟ وهل لدينا سياسة لغوية؟ وكان صريحاً في إطلاق الأسئلة والإجابة عليها نفياً, حتى كاد أن يقنع الكثير ممن حضروا أننا لم نصنع شيئاً للحفاظ على هذه اللغة… التي نفاخر بها.. ولكنا لا نقدم لها شيئاً يمنع عنها الموت حقيقة أو مجازاً, ويجعل غيرها من اللغات تحيا وتكون وعاءً للمعرفة الإنسانية وعلوم الحضارة, والبكاء على الاطلال لن يحيي اللغة, ويجعلها لغة حية تنافس لغات العالم الحية التي تختزن كل هذه المعارف والعلوم في عالمنا المعاصر, فلا أحد يتحدث عن تطوير هذه اللغة والتجديد في قضاياها, والاستفادة من خطوات الأمم في إحياء لغاتها والمحافظة عليها من الإنزواء بعيداً حتى لا تموت, خاصة تلك اللغات التي اليوم تتسابق الأمم إلى تعليمها لأبنائها للحصول على أكبر قدر من المعرفة ولدراسة العلوم غير المتوافرة إلا عبرها, فاللغة كائن حي إذا أهملت تغذيته بما يبقيه حياً مات واندثر, واللغات التي تنقرض اليوم في العالم لا حصر لها إما لانخفاض اعداد المتحدثين بها, أو لأنها لم تعد لغة حضارة تتفاعل مع لغات العالم المقدمة لحضارته الحديثة, ولغتنا العربية لا تزال من اللغات الحية لكثرة الناطقين بها, ولكن دعونا نتواضع لنقول إنها أخذت تفسح المجال لغيرها في ساحات العلوم والفنون, لتنزوي بعيداً في حضارة العالم اليوم, ولن يعيد لها الوهج مثل هذه التنظيرات التي لا تسمن ولا تغني من جوع, ولنبحث عن جهود علمية حقيقية لاحياء هذه اللغة مرة أخرى لتكون لغة المعرفة والعلم, يقوم بها الاكفاء من المتخصصين في اللغة والاجتماع وعلوم أخرى حتى التقني منها, وبغير هذا فإنا نعرض لغتنا لمزيد من الضعف ولعلي في مقال آخر اتحدث عن أسباب هذا الضعف ومنه ما طرحنا هنا فهل نعي؟! هو ما أرجو.