أحكام القيام للقادم إلى المجلس

قرأت مقالاً لأحد إخواننا في هذه الجريدة عن القيام في المجالس للقادم إليها، فحكم ابتداء أن فعل القيام قبيح، ثم زاد فقال: ومن الوجهة الشرعية القيام للسلام على من يدخل في المجالس لا يجوز، أي بمعنى آخر محرم لا يباح.
وشعرت أن كاتبنا العزيز استعجل فأفتى بما لم يفت به أحد قبله، والفتوى ليست إلقاءً للكلام على عواهنه، وإن اقترن بدليل لم يدرك ما يدل عليه، فقد وردت في النهي عن القيام أحاديث منها ما أورده الكاتب وهو قول أبي أمامة رضي الله عنه: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متوكئًا على عصا فقمنا إليه فقال: (لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا)، وقد بين فيه سيدي رسول الله عليه الصلاة والسلام علة النهي عن القيام وهو أن يكون تعظيمًا لمن يقوم الناس له، وهو يريد ذلك، لا أن القيام ممنوع في كل حال: ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار)، وهو يرشدنا إلى من يملأه العجب بنفسه فإن كان ذا سلطة طلب من الناس القيام وإن لم يقوموا عاقبهم، أو هو من غير هؤلاء ولكنه يجد في نفسه شيئًا إن لم يقم له الناس، وإذا كانوا يعلمون عنه ذلك فلا يباح لهم القيام، حتى لا يعينوه على التكبر الذي هو من كبائر المعاصي.
وغير هذين الحديثين أحاديث أخر لا تخرج عن هذا، وورد في الأمر بالقيام لغير هذه الغايات أحاديث أخرى منها: ما رواه أبو سعيد الخدري قال: لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ، بعث إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء على حمار فلما دنا من المسجد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم (قوموا إلى سيدكم)، فقد أمرهم -عليه الصلاة والسلام- بالقيام لذي فضل، حتمًا أنه لم يطلب ذلك ولا ممن يخشى عليه العجب بنفسه،
ومنها: ما ثبت في الصحيحين في قصة كعب بن مالك: لما تاب الله عليه وعلى صاحبيه رضي الله عنهم جميعًا، وفيه أن كعبًا لما دخل المسجد بعد التوبة عليه: قام إليه طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- يهرول فسلم عليه وهنأه بالتوبة، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
لذلك لم ير العلماء في القيام لمن يدخل المجلس حرمة إلا إن كان في القيام ما ذكرنا من المعاني ومن محبة من يقام له القيام ويراه حقًا له، وإن لم يقم الناس له ضاق بهم لوجود معنى في نفسه يظنهم أدنى منه ويجب عليهم القيام له، فهو محظور ولا شك لمن يريد أن يقام إليه تكبرًا وتعاظمًا على القائمين له.
فالقيام لغير هذا مباح فمن يقوم لأحد على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ولا يطلبه، حينما يقوم الصغير للكبير، ويقوم العامة للعالم ذي الفضل، وهكذا.
ولعل بعض الناس يدرك أن هذا القادم إن قام له الناس وجد في نفسه غرورًا أو عجبًا وخشي عليه أن يكون في القيام له مدخل، في تعاظم شأن نفسه وتكبره، فعدم القيام في حقه شيء طيب.
وهيهات أن يعرف الإنسان ما في نفوس الخلق، إلا بعد معاشرة طويلة ورؤية تصرف الإنسان في سائر الأحوال، وهذا لا يكون إلا بين المتعايشين عن قرب من الأصدقاء والإخوة.
وإذا كان القيام في المجتمع لذوي الهيئات والمكانة عرفًا سائدًا بين الناس في هذا الزمان فلا بأس بأن تقوم لهم، ما لم يكن في ذلك محاذير مما ذكرنا، وقد رأى بعض العلماء أن ترك القيام إذا كان عرفًا قائمًا في المجتمع قد يوجد في نفس من لم يقم له شيئًا على أخيه، فندب إليه أن يقوم له، لما في تركه من المفسدة.
وتمنيت لكاتبنا العزيز ألا يفتي فيما لا يعلم حكمه، وحبذا لو أنه إن كان لابد كاتبًا عن المجالس أن يكتب عن آدابها، والتي ضاع منها في هذا العصر الكثير، فلا ترى فيها احترام كبار السن، والرحمة بالصغار، ولا تحس فيها أن الإصغاء إلى المتحدث وارد، فالكل يتحدث إلى الكل، وكأن المجالس خلايا نحل، لا يستفيد أحد من أحد، ولا يصغي أحد إلى أحد.
وتسمع فيها من قبيح الأقوال وبذاءات الألسنة الكثير حتى بين من يرون أنهم النخبة التي تقود المجتمع.
وتحدث عما لا يحفظ لهذه المجالس سرًا، يتناقل الناس بينها الأحاديث ليغري الأصدقاء على نقل الكلام بين الصديقين بما يفسد بينهما، ولإشاعة أقوال يراد بها الإساءة إلى أحدهم، دون تأنيب ضمير أو خشية من الله، فالكل ينقل عن الكل فيفسد ما بينهم من مودة ويعادي بعضهم بعضًا.
ولن أحدثك عن الغيبة والبهتان التي تنتشر في المجالس كما تنتشر النار في الهشيم.
أصلح الله أحوال مجالسنا الخاص منها والعام إنه السميع المجيب للدعاء.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: