من العجب أن نرى في الغرب تشددًا بإلزام الأطباء بأخلاق المهنة ونرى عندنا تفريطًا فيها, حتى أن المريض تذهب حياته هدرًا لإهمال طبيب
أصبحت في هذا أخلاق المهنة ركنًا أساسيًا في إعداد كل أصحاب مهنة لأن يقوموا بها بأرقى الأساليب, فأصبح في الجامعات مقرر يخص هذه الأخلاق, ولما كان الطب من أشرف المهن التي اشتغل بها الإنسان على مر الزمان, وهذه الأخلاق مجموعة من القوانين واللوائح والفضائل المتعارف عليها خلال ممارسة مهنة التطبيب, وهي قيم تم اكتسابها وتبنيها من قبل الهيئات الطبية على مدار تاريخ الطب, واستنادًا لقيم دينية وفلسفية وأخلاقية, وتعود نشأة هذه الأخلاق إلى العصور القديمة, ولعل أول من تحدث عن ذلك «أبوقراط» الطبيب, والذي يردد قسمه كل الأطباء عبر العالم, وشارك في ذلك الأطباء المسلمون كإسحاق بن علي الرحاوي الذي صنف كتابًا عن آداب الطبيب, وساهم في ذلك أبو بكر الرازي وعدة أطباء آخرون, وأظن أن كليات الطب قد اختارت أن تدرّس منهجًا لمقرر في أخلاق المهنة, اطلعت على مخططه لدى الدكتور عمرو أحمد جال تحت مسمى «أخلاقيات الطبيب المسلم» في المقرر 395, ولا أدري إن كان لايزال له وجود حتى اليوم أم لا, وخاصة أن الناس اليوم يلاحظون على بعض الأطباء الكثير مما فارق هذه الأخلاق, إن لم نقل تعرّى عنها بالكلية, ومن العجب أن نرى في الغرب تشددًا بإلزام الأطباء بأخلاق المهنة, ونرى عندنا تفريطًا فيها, حتى أن المريض تذهب حياته هدرًا لإهمال طبيب, يجعله يقع في خطأ قاتل, وما هذه الأخطاء الطبية المتوالية, والتي يُعلن عنها بين الحين والآخر, وتذكر ولكن مانال مرتكبها من عقوبة لا يعلن عنه, بل قد نجد من ارتكبها يعمل ولم يمس بسوء, وكأنه يتحدى من كان سببًا في ازهاق روحه, أو إصابته بعجز جزئي أو كلي, والمعلوم بداهة أن الالتزام بأخلاق المهنة للطبيب المسلم أوجب, ذاك أن الإسلام العناية بالجانب الأخلاقي فيه عظيم, حتى أن البعض قسّم أحكامه إلى ثلاثة أقسام عقيدة, ثم أحكام معاملات, ثم أخلاق, والحقيقة أن أحكام الأخلاق فيه هي الحامية التي تصون المعاملات, وتطهّرها من معاملة ضارة أو ظالمة, فالأخلاق في هذا الدين الحنيف ليست مجرد اختيار يثنى به على المسلم إن أتاه, وقد يعاب إن تركه, بل إنها أحكام واجبة النفاذ, فهي تتردد بين الوجوه إن كانت فاضلة فالأمانة والصدق والعدل واجبة, من فعلها أثيب عليها, وإن تركها عوقب عليها, وقد ورد في الشريعة من العقوبات عليها الكثير, وبيّن التحريم إذا كانت رديئة من الرذائل, فالكذب مثلًا من كبائر الذنوب الذي عقوبته أشد عقوبة في الآخرة, وهو في الدنيا معاقب عليه إن حدث من ورائه ضرر بالآخرين, والطبيب المسلم هو الأولى بالتمسك بالأخلاق, فمهمته الإنسانية عظيمة, ذاك أنه اليد الحانية التي إن زكت كانت أفضل دواء يتناوله المريض, وهي إن خانت وكانت عليه شديدة كانت سببًا في شقاء المريض, بل إن خطر الطبيب أنه يتعامل مع هذا الإنسان الحي, فأما أن يكون ذكيًا قد أورثه علمه وخبرته إتقان حرفته, فكان سببًا للشفاء وإعادة البسمة على شفاه المرضى, وأما أن يكون سببًا لمعاناتهم بسبب أخطائه الناتجة إما عن أخلاق رديئة هو عليها, أو قلة علم, تؤدي إلى جل الأخطاء التي يركتبها, لذا كانت العناية بأخلاقه شاغل الأطباء في القديم والحديث, والناس إنما يقبلون على الطبيب الإنسان, وينفرون حتمًا عن الطبيب الذي لا يملك منها شيئًا, واليوم ونحن نعاني من تردي الخدمات الطبية, وانتشار لون من الأطباء لا هم لهم سوى الربح المادي, مما يجعلهم يتخلون عن كثير من الأخلاق, ويصطدم المرضى خاصة منهم الضعفاء من ذوي الدخل المحدود أو المعدوم بهم والمرض وحده هو ما يقدم الإنسان إلى الطبيب, فما لم ير الطبيب في المرض سببًا للعناية بمريضه, فهو لن يقوم بواجبه الإنساني, وهذا لا يعني أننا ننكر على الطبيب أن يربح من عمله, ولكن نعيب عليه أن يكون المعيار الوحيد للاهتمام به ما يُدفع للطبيب من أجر, خاصة وأن الأطباء كلهم في بلادنا قد تعلموا على حساب الدولة, وللمجتمع عليهم حق أن يقدموا لأفراده أفضل الخدمات, وهنا ظاهرة لابد من الإشارة إليها, فنحن في مجتمع يريد الأفراد فيه أن يكونوا جميعًا علماء ودعاة, وليس الأطباء بدعة من هؤلاء الأفراد فكم مشتغل منهم بالدعوة والوعظ, رغم أنه في هذا المجال قليل العلم, ويترك ما أهل له من الطب, وبانشغاله بهذا قد يؤدي إلى ضعفه في علمه الأساس (الطب), والمعلوم بداهة أن العلم الديني يتخصص له من أوتي حظًا فيه فالله عز وجل يقول, (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ونحن في مجتمع قد سدت الحاجة فيه إلى الدعاة والوعاظ, والحاملون للشهادة في علم الدين (الجامعية والماجستير والدكتوراة) عددهم فيه كبير, مما يجعلنا أن نقول: ألا مثيل له في أي بلد آخر, فما الحاجة أن يشتغل به من لم يتأهل له, وتترك حرف تأهلّ لها أصحابها وأصبحت عليهم فرض عين, ويشتغلون بما هو في الأصل فرض كفاية على من تأهل له, ثم إن الطبيب المحاول أن يكون داعية وواعظًا, حتمًا لن يكونه لأنه لم يتخصص فيه, وسيفقد ما تخصص فيه مع مضي الزمن فيخسر هو كما يخسر المجتمع الذي أعده أن يكون طبيبًا.
إن التزام الأطباء بأخلاق المهنة أمر ضروري لنجاحهم ولخدمة إخوانهم المرضى فهل سيلتزمون هو ما نرجوه والله ولي التوفيق.