إنكار الاختلاف لا يجدي

الاختلاف الذي وقع في المسائل العقدية والفقهية منذ العهد الأول بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم بين التابعين وتابعيهم، هو الأساس لما جرى فيه الاختلاف فيما بعد، فلن تجد مسألة واحدة اختلف فيها الناس إلا وجذرها في القرون الأولى، التي ظهرت فيها الفرق العقدية كافة، ثم المذاهب الفقهية المتعددة كلها، المشهور منها والمتبع، وما كاد أن يختفي منها لأنه لم يجد من ينشره بين الناس وإنكار هذا الاختلاف لا يجدي، لأنه إنكار لواقع عاشه الناس قروناً، كما أن محاولة جعلهم يتفقون على مذهب واحد هو المستحيل ذاته، فالاختلاف بين البشر في الفكر والاجتهاد والرؤية كاد أن يكون فطرة في البشر، قل أن تراهم يتفقون على رأي، لذا قال ربنا عز وجل: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، ولا أحد من أهل العلم لا يدرك واقع الأمة وما جرى بينها من خلافات في المجال العلمي، بل وفي المجال السياسي، وتطاول عليها الزمن وأسس من خلالها فرقاً وطوائف، ومذاهب تعددت ثم انحصرت في تسعة مذاهب ثم أربعة في جانب أهل السنة، وإنكار هذا الوضع لا فائدة منه، وهذا الاختلاف منه ما هو سائغ محمود كاختلاف الصحابة رضوان الله عليهم، ومنه ما لا يسوغ ولا يحمد إذا أدى إلى فرقة تؤدي إلى فتن قد تبلغ الاقتتال، فالتنوع والتعدد سمة للعلم الديني، لا ينكره أحد إلا إن كان يجهل تاريخ هذا العلم، وما قرأناه مؤخراً من تصريحات للبعض توحي بأن لهم رؤى يودون فرضها على الساحة العلمية، بأن يكون المذهب واحداً، فيزعم أحدهم أن للدولة نظاماً ينص على عدم التعدد في المذهبية وحجته في ذلك أن النظام الأساسي للحكم نص على الإسلام، كما كان في الصدر الأول، وكأن الصدر الأول يعني أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا على قول واحد، مع أنه لو أتاح لنفسه فرصة مراجعة مصادر العلم فاطلع مثلا على المغني لابن قدامة لوجد أن كل مسألة فيها اختلاف فيها فريقان مثلاً من الصحابة ومن تبعهم وحتى ظهور المذاهب، ولو استحضر قصة الإمام مالك مع أبي جعفر المنصور، لما أراد أن يلزم الناس مذهب الإمام في كتاب الموطأ فقال له: إن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان، وكل أخذ بما وصل إليه من أقوالهم، والصحابة رضوان الله عنهم قد اختلفوا حتى في بعض مسائل الأصول، فقد اختلفوا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لله، وفي الإسراء والمعراج قال الإمام ابن تيمية: (فإن مسائل الدًّق في الأصول لا يكاد يتفق عليها طائفة إذ لو كان كذلك لما تنازع في بعضها السلف من الصحابة والتابعين).
وكان لعلماء الأمة الأعلام اجتهاد في مسائل الأصول لا يصح تبديعهم به، يقول ابن تيمية أيضاً: (وليس كل مخالف في شيء هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً، يغفر الله له خطأه، وقد لا يكون قد بلغه ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو به سيئاته).
ولم يكن للصحابة رضوان الله عليهم تعلق بما اعتدناه من تصنيف الناس بأهل السنة وسواهم، مما ظهر من المصطلحات بعدهم، وهذا المنكر للتعدد والتنوع في مذاهب المسلمين، بل لا يريد أحداً من المتخصصين في العلوم من المذاهب الأخرى أن يدرسوا في الجامعات، والآخر يقول: (المخالف في العقيدة لا يكون مسلماً حقيقياً يفسح له المجال في إبداء رأيه فيها في مجتمع مسلم متمسك بالعقيدة الصحيحة) فجعل المخالف له في عقيدته ليس مسلماً حقيقياً، ولا يعني هذا سوى أن إسلامه مزيف، إذن هو على غير ملته، بل ويقصيه فليس له الحق في أن يعلن ما يعتقد، أما المجتمع المسلم المتمسك بالعقيدة الصحيحة فلم يعرفه لنا وما هي معايير الصحة عنده، بل إن المجتهد عنده في المسائل الفقهية لا يعلن عن ما اجتهد به، بل الاجتهاد في نظره قضية شخصية ليعمل المجتهد بما اجتهد في نفسه، والغريب أنه يستشهد بقول الله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)، وكأن الاختلاف السائغ الذي يقود إليه الاجتهاد يفرق الأمة، ثم يستشهد بقول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)، وكأن المختلفين من هذه الأمة في كثير من المسائل العملية والعلمية لم يعتصموا بحبل الله وتفرقوا بسبب ذلك، ولم يفهم المعنى بالتنازع الوارد في قول الله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، فحمله – عفا الله عنه – على الاختلاف الذي وقع بين الأمة منذ الصدر الأول في المسائل العلمية فنتج عنه هذه المذاهب الفقهية المتعددة وبعض الاختلاف في مسائل قليلة من الأصول مرجعها أدلة غير الكتاب والسنة، ورجعت الأحكام فيها إلى أدلة أخرى للاجتهاد فيها مدخل، فهذا التعدد والتنوع يدل على حيوية هذه الأمة واتساع رؤاها وأحادية الرأي هذه وإقصاء كل الأمة إلا فئة قليلة منها تدعي أنها وحدها التي تعلم الدين وتمسك بزمامه وعلى الجميع أن يتبعوا ما تقول وإلا خرجوا من الملة أمر خطير لا يجب القبول به، فزمانه مضى هدانا الله جميعاً إلى الحق إنه سميع مجيب.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: