يكفي الإمام الحافظ ابن حجر فضلا على هذه الأمة شرحه لصحيح البخاري المرجع الهام في علم الحديث مصطلحًا وسندًا وفقهًا، ولد رحمه الله في الثاني والعشرين من شهر شعبان سنة 773، وهو من أسرة تشتغل بالعلم وتشجع عليه، والده اشتغل بالعلم والفقه ومهر في الآداب، ونشأ رحمه الله يتيم الأب والأم في كنف أحد أوصيائه (زكي الدين الخروبي)، وهو من كبار التجار في مصر ولم يأل جهدًا في رعايته والعناية به، فحفظ القرآن الكريم، الذي هو مبدأ العلم الشرعي، وصلى في ذلك الزمان بالناس في الحرم المكي إمامًا في صلاة التراويح، وذلك في حجه مع وصيه، وظل في كنف وصيه ولم تعرف له صبوة ولم تضبط له زلة أثناء مراهقته، وفتح له الباب إلى العلوم كافة حفظه للقرآن الكريم ثم تعلقه بالحديث الشريف، وهما المصدران الأساسيان للشريعة الإسلامية، وكان ذا قوة وهمة وعزيمة ورغبة قوية في طلب العلم.
يقول عنه تلميذه الإمام السخاوي (فجد بهمة وافرة وفكرة سليمة باهرة، في طلب العلوم منقولها ومعقولها حتى بلغ الغاية القصوى) وقد رحل في طلب العلم داخل مصر وخارجها إلى الحجاز وإلى اليمن وبلاد الشام وبيت المقدس والخليل، وبرهن أثناء رحلته على كفاءة نادرة تثير الدهشة فحفظ المتون، واجتماع له من الشيوخ ما لم يجتمع لمثله، فأخذ القراءات عن التبنوخي، والحديث عن العراقي والبلقيني في سعة الاطلاع والحفظ وعن ابن الملقن في كثرة التصانيف (المؤلفات) وأخذ اللغة عن الفيروز بادي صاحب القاموس، وبلغ عدد شيوخه بالسماع والإجازة والإفادة نحو أربعمئة وخمسين نفسًا، وترجم في المجمع المؤسس لأكثر من ستمئة شيخ، وتلاميذه لا يحصيهم الحصر، واشتغل بالتدريس والإملاء والإفتاء والخطابة، وعمل بالقضاء، أما مصنفاته فحدث لا حرج، فالرجل موسعي العلم والتأليف، أشهرها فتح الباري شرح صحيح البخاري، ثم تهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب، ولسان الميزان، والإصابة في تمييز الصحابة، واتحاف المهرة بالأطراف العشرة، والنكت على مقدمة ابن الصلاح وامالي الأذكار في تخريج أحاديث الأذكار، وتغليق التعليق، وتعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس، والكافي في تخريج أحاديث الكشاف، والمطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، ونخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر وشرحها، والإيثار بمعرفة رواة الآثار، وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه، ونزهة الألباب في الألقاب، وأنباء الغمر بأنباء العمر، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ورفع الأصر عن قضاة مصر وبلوغ المرام في أدلة الأحكام، والمجمع المؤسسي بالمعجم المفهرس وغيرها كثير، رحمه الله وأسعدنا به وبمؤلفاته.