من هو على صلة حقيقيَّة بالدِّين الحنيف «الإسلام»، وعلى علم بعلومه حتمًا سيدرك أنَّ غاية هذا الدِّين في الأساس أخلاقيَّة، عبَّر عنها من حمله إلينا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنَّما بُعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق)، وجعل الخُلق قرين العبادة الخالصة لله، حينما قال: (إنَّ الرجلَ ليدركُ بحسنِ خُلقِهِ درجةَ الصائمِ القائمِ)، بل وقال: (أكثرُ مَا يدخلُ النَّاسَ الجنَّةَ تقوى اللهِ وحُسنُ الخُلقِ)، وأنّ القرب منه يوم القيامة إنَّما هو بحسن الخُلق فقد قال: (إنَّ أقربَكم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحسنكُم أخلاقًا)، هذا هو ما يشير إلى أهم عناصر الدِّين الخلق الفاضل، ومن هو مداوم على تلاوة كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، لا شكَّ يعلم أنَّ ثلثه أو يزيد في الأخلاق، آياته ناطقة بذلك حاثَّة عليه، فديننا الحنيف يرتكز في كتاب الله على أقسام ثلاثة: أولها الآيات في الإيمان وأركانه، وثانيها: تشريعاته تعبدية شعائرية ومعاملات، وعقوبات، وكلها مترابطة، ثم ثالثها: الأخلاق التي حرص عليها الإسلام وجعلها من جوهر الدِّين وأصله، الذي يرتكز عليه، وهي ما يُعنى بعلم السلوك أو علم التزكية، وهو مع علم العقائد والشرائع يكون أهم مكوِّنات هذا الدِّين، لا يتخلَّف أحدهما عن الآخر، ولا أظنُّ أنّه يصحُّ إيمان وإسلام إلاَّ بهما مجتمعين، وما من أحد مطلع على علوم الدِّين حقيقة إلاَّ ويعلم أن الأخلاق فيه ليست كما هي في نظم البشر تطوعيَّة، بل لها أحكام في الشريعة ثابتة، القيام بها دين، والتخلِّي عنها معصية يحاسب الله عليها عباده في الدنيا والآخرة، فأنْ تكونَ صادقًا فإنَّ ذلك واجب وفرض عين عليك، فإذا تخلَّيت عن الصدق إلى ضده، وجعلته خلقًا لك تسير عليه، هداك، كما جاء في الحديث إلى جهنم، وهو من خصال ثلاث وأربع لأشد أصناف الكافرين بُعدًا عن الله عزَّ وجلَّ، وعن دينه، المنافقون، فسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (عليكُم بالصدقِ فإنَّ الصدقَ يهدِي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدِي إلى الجنَّةِ، وما يزالُ الرجلُ يصدقُ ويتحرَّى الصدقَ حتَّى يُكتبَ عندَ اللهِ صدِّيقًا، وإيَّاكم والكذب، فإنَّ الكذبَ يهدِي إلى الفجورِ، وإنَّ الفجورَ يهدِي إلى النَّارِ، وما يزالُ الرجلُ يكذبُ ويتحرَّى الكذبَ حتَّى يُكتبَ عندَ اللهِ كذَّابًا)، وقد قال سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محذِّرًا: (أربعٌ مَن كنَّ فيهِ كانَ منافقًا خالصًا، ومَن كانتْ فيهِ خلةٌ منهنَّ كانتْ فيهِ خلةٌ من نفاقٍ حتَّى يدعَها: إذا حدَّث كذب، وإذا عاهدَ غدر، وإذا وعدَ أخلف، وإذا خاصمَ فجر)، والمؤمن هو من التزم بالإسلام كلّه، لا من ينتقي منه ما يهوى، ويترك منه ما لا يهوى، والمسلمون حينما كان التزامهم بدينهم قويًّا شاملاً كانوا كلَّما وصلوا بلادًا شاع عنهم حُسن الخُلق، فإذا تساءل أهل تلك البلاد عن حالهم؟ قالوا لهم: هذا هو ديننا، فدخل الناس في الإسلام رغبةً لا رهبةً، وكم من بلد لم يصل إليه جيش للمسلمين اليوم أهله غالبهم مسلمون، وأخشى ما أخشى على أهل زماننا، وتخليهم عن محاسن الأخلاق أن يدفعوا الناس عنهم، وعن دينهم، دين الإسلام، فالناس إنَّما يجذبهم لبعضهم حُسن التعامل فيما بينهم المعتمد على محاسن أخلاقهم، وحتَّى لا نرددَ ما قاله مفكرٌ من قبل: إنَّه رأى في ديار الإسلام مسلمين، ولم يرَ إسلامًا، ورأى في الغرب إسلامًا، ولم يرَ مسلمين.
إنَّ أهم ما ميزنا كأمَّة هو تزكيتنا لأنفسنا بالسلوك الحسن، المبني على نظرية فائقة أنَّنا نتحلَّى بكل خلق فاضل، ونتخلَّى عن كل خلق دنيء، فيرانا الناس خير أمّة أخرجت للناس فعلاً، فيعجبون بديننا، ويقبلون عليه، فإن تركنا هذا، فلا فرق بيننا وبين كثير من الأمم التي امتلأت كتبنا بذمها، فهل نفعل؟ هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.