الإجماع بين الحقيقة والادعاء

إن كثيرًا من المسائل المدَّعى الإجماع فيها.. تجد فيها اختلافًا بين العلماء في مختلف العصور

الإجماع كما يعرِّفه علماء أصول الفقه: «هو اتفاق جميع المجتهدين المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمر أو حكم شرعي» وقد يضيف البعض: «ولهم في ذلك مستند شرعي»، وهو بهذا التعريف له شروط يجب توافرها لاعتماد هذا الإجماع كدليل شرعي، أولها: الاتفاق التام بين المجتهدين في العصر المعين على قول واحد في مسألة أو واقعة حدثت، لا يشذ منهم عن هذا الاتفاق أحد، وهذا هو القسم الأول من الإجماع المعتبر الذي يسمى الإجماع الصريح ويشترط له أن يصرِّح كل مجتهد بقوله المتفق عليه بينهم صراحة بلفظه ومعناه، أو يعمل به ظاهرًا، وهو الأمر الذي قلَّ أن يحدث، خاصة قديمًا حينما تباعدت الأقطار وتعدد العلماء، حتى لا يكون علماء إقليم في الدولة الإسلامية يعرفون العلماء كلهم في الأقاليم الأخرى، ما عدا عهد الصحابة رضوان الله عليهم لمعرفتهم ببعضهم ولقلة عددهم، فعلماؤهم عددهم محدود معروف فإنه يمكن أن يقع مثل هذا الإجماع الصريح، ولعله لم يقع حتى في قضية المصاحف، فالمعلوم أن سيدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، ولعل معه غيره من القراء، قد احتفظ بمصحفه ولم يحرقه وطبعًا لا يعني هذا تشكيكًا في القرآن، فهو قد وصل إلينا عبر الأجيال بالتواتر، ولكن الدلالة هنا أنه لم يتم إجماع على حرق المصاحف ما عدا المصحف الإمام فشرط الإجماع ألا يكون هناك مخالف له من العلماء المجتهدين، وهذا الإجماع الصريح هو الحجة القطعية التي يحرم مخالفتها، والنوع الثاني وهو الأكثر في مسائل الإجماع هو (الإجماع السكوتي) وهو ما تم إعلان القول فيه من بعض المجتهدين، وسكت الباقون، والسكون كأداة كما يقول الفقهاء لا ينتج عنه قول فهم يقولون: ليس للساكت قول، فالسكوت قد يكون رهبة وقد يكون عدم موافقة ولكنه يجاري الآخرين بسكوته، لهذا كان هذا النوع من الإجماع حجة ظنية، مثله مثل أحاديث الآحاد، قد يعمل به ولكنه لا يفيد العلم اليقيني، ولاشك أن معظم ما عُلم من الدين بالضرورة كالأركان الخمسة في الإسلام، وأحكام الحلال والحرام المنصوص عليها هي مما أجمع عليه المسلمون ولا يعتريها الشك، أما ما بقي من مسائل الاختلاف المعروفة عبر المذاهب الفقهية المعتبرة فادعاء الإجماع فيها هو مما قال العلماء أنه غير ممكن، فالإمام أحمد يقول: «من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: «لا نعلم للناس اختلافًا إذا لم يبلغه».
ويقول الإمام الشافعي: «لا ينبغي لأحد أن يقول أجمعوا حتى يعلم إجماعهم في البلدان ولا يقبل على أقاويل من نأت داره منهم، ولا قربت إلا الجماعة عن الجماعة»، فقال له محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة: «تضيق هذا جدًا فقال له: وهو مع ضيقه غير موجود»، ولما سأله: «فهل من إجماع قال: نعم الحمد لله كثيرًا في الفرائض التي لا يسع جهلها»، وذلك الإجماع الذي إذا قلت: أجمع الناس لم تجد أحدًا يقول لك: ليس هذا بإجماع، فهذه الطريق التي يصدق بها من ادعى الإجماع»، وبعض الأصوليين رأى استحالة الإجماع، والذي لاشك فيه أن الإجماع إذا خالف النص لم يقبل حتى لو زعم أنه صريح، كما نقل – بعض الأصوليين تعذر الإجماع لأسباب، ذكر هذا الإمام الجويني في البرهان، والكتب المشهورة مثل الإجماع لابن حزم، أو الإجماع لابن المنذر وغيرهما لو قرأتهما وأنت لديك إلمام بمصادر الفقه في المذاهب الأربعة، لأدركت أن كثيرًا من المسائل المدعي الإجماع فيها، فيها اختلاف بين العلماء في مختلف العصور، وإذا كان الصريح، الذي هو حجة قطعية كان في الماضي كاد أن يكون مستحيلًا، فكذا في عصرنا هذا، فلم يقع فيه إجماع صريح أبدًا، ولا يقال: «إن الصادر عن المجامع الفقهية العلمية يمثل إجماعًا، فالعلماء في هذه المجامع لا يمثلون 10% من علماء الأمة»، وقد دعاني لكتابة هذا المقال ما أقرأه اليوم وأسمعه من بعض المنتسبين للعلم حقيقة أو وهمًا أن في هذه المسألة إجماعًا، وهي من مسائل الاختلاف الظاهرة المعروفة والمتداولة، مما يعني أنه إنما ادّعى الإجماع ليسكت من يختلف معه، ليقول له: أنت تخالف الإجماع ومخالفته كفر كما يرى البعض من الأصوليين، فقد انقضى العصر الذي لا يتمكن منه الناس على الاطلاع على كافة مصادر العلم فهي متوفرة لهم ومن يعلّمون الناس أحكام الله لا حصر لهم، فعلى من يجهل شيئًا من علم الدين أن يطلبه فقد سهل الطريق إليه، ولا يحتكره أحد، وتسقط حتمًا دعوى الإجماع مادام في المسألة خلاف، ومن ادعاه يغالط نفسه قبل أن يغالط الناس فهل ندرك هذا، هو ما أرجو والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: