في مجتمعاتنا المسلمة، الإقصاء على أشدُّه في هذا الزمن المتأخِّر، والمسلمون في حال ضعف شديد، حيث ظهرت دعاوى كثيرة تدَّعي أن بين المسلمين مَن ضلَّ عن طريق الهدى، وأنَّه لم يبقَ على الإسلام إلاَّ فئة قليلة ينتمي إليها المتحدِّث بلسانها، وما سواها قد ضلّ الطريق إليه، وتعدَّدت المذاهب والطوائف، ورغم أن التعدُّد ميزة عند ذوي الفطرة السليمة، إلاَّ أنَّه عند المسلمين في عصورهم المتأخِّرة داء عظيم، فتنفرد فئة بادِّعاء أنَّها وحدها على الحق، وأنَّ ما عداها من المسلمين قد فارقه، ومهما قلَّ عدد هذه الفئة إلاَّ أنَّها تظلُّ تعلن أنَّها الممثلة للإسلام دون غيرها من المسلمين، وظلَّ هذا الادِّعاء يفرِّق بين المسلمين أزمانًا طويلة؛ لأنَّه من فئة قليلة تدَّعي ضلال الأمة كلّها، وتدَّعي وحدها أنَّها على الحقِّ، وتجد في نصوص افتراق الأمَّة إلى اثنتين، أو ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة، رغم أنَّ روايات الحديث كثيرة لم يرد فيها «كلها في النار إلاَّ واحدة»، إلاَّ أنَّها تتمسَّك بهذه الرواية الواحدة؛ لتدَّعي أنَّها وحدها على الحق، وسائر فرق الأمَّة وجماعاتها على ضلال، وأدَّى ذلك إلى التنازع بين جماعات الأمَّة، وفرقها، ومذاهبها، وشدَّة الاختلاف بينها، بل والعداء أحيانًا، وظلَّ في الأمَّة من العلماء مَن يسعى إلى جمع الأمَّة على كلمة سواء، لا يحكم أحد منهم على الآخرين بضلالٍ، أو شركٍ، أو كفرٍ، وإن اختلفوا في فهم النصوص، وظهرت بينهم على مدى تاريخهم دعوات طيبة لجمع الكلمة، والتقريب بين جماعات الأمَّة كلها -فرقًا، وطوائف، ومذاهب- حتَّى ظهر مَن أحيا دعوة الخوارج مرَّة أخرى؛ ليحكم على سائر الأمَّة بالضلال، بل ويقاتلها، ويسفك الدماء، ويعتدي على الأعراض والأموال، ودافعتهم الأمَّة حتَّى كبحت جماح شرِّهم، وبين الحين والآخر يظهر مَن يحيي دعوتهم مرَّة أخرى، إمعانًا في إضعاف الأمَّة، والتسبُّب في شتات أمرها، وضعفها تجاه أعدائها، وهو الحال الذي هي اليوم عليه، بعد أن ازدادت جماعات الإقصاء بينها، وتعدَّدت، بعضها سلك الدعوة المشؤومة للخوارج، وبعضها اقتصر على إقصاء سائر الأمَّة، بدعوى أنَّه وحده على الحق، ورغم جهود الصالحين من علماء الأمَّة وعُبَّادها، لا يزال الشرخُ بينها واسعًا، ويحتاج إلى جهود من علمائها الصالحين ذوي الفهم السليم لدينهم لدعوتها إلى الائتلاف، وترك الخصام، والتنابز بالألقاب، لتعود أمَّة مرحومة، هي التي ستكون أكثر ساكني الجنَّة -بإذن الله- يوم القيامة، بفضل الله وكرمه، وترك الداء الشنيع الذي كلَّما بدا أوهن الأمَّةـ وشتَّت شملها، ألا وهو داء التكفير، والتبديع، والتفسيق، والحُكم بالنَّار لسائر فرق الأمَّة، وطوائفها، والدعوة إلى التآلف بين أفرادها وجماعاتها، والحثّ على قبول بعضها بعضًا، حتَّى تقوى بالانضمام إلى بعضها، ولا تضعف بالتفرُّق والعداء فيما بينها، وترك داء الإقصاء الذي كان السبب الأعظم في إضعاف شأن الأمَّة وتفرّقها، والبحث عمَّا يجمعها، ويضم فرقها، ومذاهبها بعضها إلى بعض، وهو ما يسعى إليه عقلاء الأمَّة على مدى تاريخها، لعلمهم الراسخ أنَّ في الاجتماع قوةً للأمَّة، وفي الافتراق ضعفًا لها، يُطمع الأعداء فيها، آملين أن تسمعَ الأمَّة النداء، فتتآلف، ويشدُّ بعضها بعضًا، فتقوى، وأن تسمع نداء نبيِّها صلى الله عليه وسلم بنبذ الفرقة والاعتصام بحبل الله، والاجتماع على الخير، ونبذ الشر، فيشدُّ بعضها بعضًا، وتأمن أن يخترقها عدوّها، فيزيدها فرقة وتباعدًا، سائلين المولى -عزَّ وجلَّ- أن يهدي الأمَّة إلى خير السبل، لنَيل رضوان ربِّها، إنَّه ولي ذلك، والقادر عليه.. والله عز وجل وحده ولي التوفيق.
شاهد أيضاً
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …