أقرأ بين الحين والآخر مقالات وتعليقات كلها تصب في اتجاه واحد، أن كل ما في الساحة من آراء متنوعة ومتعددة لا قبول لها عند الكاتب ويحملها كل الشرور لمجرد انها تخالف رأيه واجتهاد من يقلده من سلف الأمة أو خلفها، لديه رغبة شديدة في الاقصاء ولو كان له سلطان لما سمح أصلا لأحد ان يكتب او يعلق من خارج دائرته الضيقة وهذا أمر ولاشك لا ينجم الا عن جهل عظيم بعلم الخلاف، الذي لعلماء الامة المسلمة فيه باع طويل, ولا لعلم الجدل والمناظرة عنده اعتبار أو بمعنى آخر ليس عنده اعتبار لأدلة العقل ومن قبلها أدلة الشرع.
فكأنه لم يعلم قط أن من الاختلاف ما ساغ شرعاً، وأنه وقع بين سادة الأمة أصحاب سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما أنشأ بينهم هذا الاختلاف عداءً ولا ألزم أحداً منهم بالرد على الآخر، أو أن يعيبه أو ينتقصه، ثم جاء بعدهم خلف ساروا على نهجهم فقبلوا الاختلاف وتعاملوا معه بما أنتج تنوعا حتى في الاجتهاد الذي هو فرض على العلماء فرأينا تنوعاً فيه ظهر جلياً في هذه المذاهب الفقهية المتعددة.
وانتعش العلم الشرعي في القرون الأولى، ودونت الأحكام، وتعددت العلوم الدينية ، وتراكمت فيها المعلومات في إرث ديني ونبوي عظيم، تفخر به الأمة وتستفيد منه البشرية على مر العصور، وظلت دائرة ساحات العلم تنداح في ارض الاسلام سواء أكانت علوم دين أو دنيا.
فلما ضعف المسلمون “تراجعت العلوم في ديارهم” وانتشر معها الجهل بالدين والدنيا وخلت ساحات العلم من روادها، ولم يبق فيها الا مقلدون لا يعرفون للابداع طريقاً، ومع الضعف الشديد يتولد جهل عظيم وأول ما يبرز في الساحة الدينية حينئذٍ ظهر إقصاء عند الاختلاف، وتوهم انه يمكن صب الناس في قالب واحد فاذا هم جميعا متشابهون حتى انهم في الذكاء على درجة واحدة. وتصور البعض ألا إجتهاد ولا اختلاف وان الانتماء الى هذا الدين يعني ان يكون الجميع على مذهب واحد ورأي واحد. وظهر بين المنتمين الى علم الدين من يظن ان ما هو عليه من مذهب ورأي هو الاسلام ذاته وان كل ما خالف او اختلف معه هو الباطل المغاير للدين، واخذ ينشد ان يجمع الناس على ما قلدّه من مذاهب علماء المسلمين فهو حتماً ليس مجتهداً ولم يأت قط بجديد، ولكن الغرور أغراه فوضع نفسه في غير موضعها ، لم يدرك قدرها وما أدرك أقدار العلماء ذوي الريادة في قرون العلم ، حتى هيأت له نفسه انتقاص علماء أجلاء مؤلفاتهم مصادر لما خاضوا فيه من علوم.
فما نشأ الاقصاء والظن بالقدرة على جمع الناس على رأي واحد الا في العصور التي تراجع فيها العلم الديني وتسلق إليه من لاحظ لهم منه ولا نصيب كبير، وانما هي قشور يتناقلونها يقلد فيها بعضهم بعضاً ويؤسفني أن أقول أن علم الدين قد رحل عنا أهل الجزيرة إلى خارجها، حتى اضطررنا حيناً أن نأخذه عن غيرنا.
وإن أردنا أن ننهض بالعلم الديني هنا في المكان الذي انبثق منه نوره فلابد أن نتخلى عن جهل انتشر، فنتخلى بتخلينا عنه عن الاقصاء والأوهام ولنقبل بتعدد الاجتهادات المنتج لتعدد الآراء والمذاهب, فإنا إن لم نفعل سنظل دوماً في دائرة مغلقة لا نستطيع الخروج منها إلى رحابة ساحة العلم التي تنوعت منذ القرون الأولى المفضلة.
فهل نحن على اقتناع بأن عودتنا لرحاب علم تنداح دائرته حتى نكون نحن حملته إلى الدنيا كلها كما كنا أول عهدنا حينما آمنا بهذا الدين هو ما أرجو والله ولي التوفيق.
الوسومالإقصاء الجهل تعليقات وليد
شاهد أيضاً
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …