هذا العنوان كما وعدت هو المقال الثاني عن الثلاثة الذين دافعت عنهم، وصددت هجمات الجهل عليهم، وهو الإمام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي، الذي ولد عام 631هـ وينسب إلى بلده نوى الشام، وهو محدث وفقيه ولغوي اشتهر بكتبه وتصانيفه التي تمثل موسوعة علمية رائدة، في الفقه والحديث واللغة كرياض الصالحين، الكتاب الذي يقرأ في كل مسجد منذ ألفه وحتى يوم الناس هذا، وكالأربعين النووية، والتي لا أظن أن بيتاً من بيوت المسلمين يخلو منها، وهو فقيه شافعي يوصف بأنه محرر المذهب الشافعي ومهذبه ومنقحه ومرتبه، حيث استقر العمل بين فقهاء الشافعية على ما يرجحه -رحمه الله-، ويلقب بشيخ الشافعية فإذا أطلق لفظ الشيخين في فقه الشافعية قصد به الإمام النووي والإمام أبوالقاسم الرافعي وله الكتاب المشهور في شرح صحيح مسلم، وقد ابتدأ شرحاً لصحيح البخاري ولكنه لم يتمه، وله في السلوك كتاب عظيم هو «بستان العارفين» وأما كتبه في الفقه فحدث ولا حرج ما بين مطولات ومختصرات تربينا عليها، وكل منتسب لفقه الإمام الشافعي يعرف فضلها وفضل الإمام رحمه الله، وله مشاركة في كل العلوم، قدم -رحمه الله- من بلده نوى إلى دمشق عام 649هـ وعمره ثمانية عشر عاماً، وأقام بها ثمانية وعشرين عاماً خلف بعده موسوعة علمية باهرة يرتوي منها علماء الشريعة على مر الأعصار، فقد كانت هذه السنين مباركة أخذ فيها العلم عن شيوخ دمشق يقول رحمه الله: (بقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض) وقال الإمام الذهبي: (وضرب به المثل على إكبابه على طلب العلم ليلاً ونهاراً، وهجره النوم إلا عن غلبة، وضبط أوقاته بلزوم الدرس والمطالعة والكتابة والتردد على الشيوخ)، وذكر قطب الدين اليونيني: أنه كان لا يضيع له وقت في ليل أو نهار إلا في وظيفة الاشتغال بالعلم، حتى أنه في ذهابه وإيابه في الطريق في تكرار محفوظاته، وبقي على التحصيل هكذا ست سنين، وكتبه موسوعة علمية في علوم الشريعة المختلفة بلغ عددها فيما أعرف ما يزيد على واحد وثلاثين كتاباً، ولعل في المكتبات العالمية كتبًا له لم تعرف بعد، وقد يكشف عنها في المستقبل فمكتبتنا الإسلامية توزعت على مكتبات العالم أيام الاستعمار، ولا زالت جهودنا تقصر عن أن نستردها، إن الإمام النووي نجم بين علماء الأمة لا يستهين به إلا جاهل كهؤلاء الذين لا هم لهم سوى الإساءة إلى علماء الإسلام، ورغم هذا كله فالإمام النووي لم يعش سوى خمسة وأربعين عاماً فقد ولد عام 631 وتوفي رحمه الله عام 676هـ وجزاه الله عن أمته خير الجزاء.