لاشك أن الإثنينية اليوم مؤسسة ثقافية كبرى ومعلم حضاري على ساحل البحر الأحمر، يجذب إليه كل المثقفين على مختلف أنواعهم، يجدون فيه روضة يبرز فيها كل ألوان الطيف من حملة العلم والفكر والأدب وسائر الفنون، من داخل المملكة ومن خارجها.
ويبذل الوجيه الأديب الشيخ “عبدالمقصود خوجة” جهدًا كبيرًا مباركًا؛ يُوفَّق فيه إلى أن يحتفي بكل قامة علمية أو فكرية أو أدبية ليكون لنا بها لقاء حافل، فنحمد له جهده ونعتز بما يفعل.
وقد اعتدتُ أن أحضر جُل هذه الاحتفاءات، وأُشارك فيها أحيانًا، إلا في هذا الموسم، حيث أقعدني المرض عن الحركة، واشتد بي الألم، فلم أعد أستطيع المشاركة آنيًا.
وفي يوم الاثنين 7/6/1435هـ احتفت الإثنينية بشخصية عظيمة لها في مسيرة هذا الوطن ثقل في العمل الوطني بكافة ألوانه وتعدد مجالاته، في السياسة والاقتصاد والعلم والفكر والأدب.
هذه الشخصية هي أديبنا الكبير ووزيرنا العامل بكل الجهد للوطن في زمن قلّت فيه الإمكانات، وترك في كل مجال عَمَل فيه، أو اجتَرَأ على أن يَخوض في مجالهِ بصمة واضحة تُشير إليه.
وله في مجال العطاء الإنساني البار ما يعجز القلم عن أن يُعدِّد محاسنه، رأيته وأنا صغير السن يزورنا في بيتٍ لنا متواضع مبني بالطين في الطائف المأنوس أثناء الصيف، وزرته مع أبي ببيته في مكة، وامتلأت نفسي إعجابًا بدماثة خلقه وحسن معشره وتواضعه الجم، رغم أنه آنذاك في عز مجده، الأديب الذي طافت شهرته الآفاق، والوزير الذي يعود إليه كل تصرف مالي في الدولة، التي آنذاك كانت تُؤسِّس لكيان ترجو أن يكون كبيرًا ومهمًا، ومكانة مرموقة مرهوبة في عالم الدول.
كان -رحمه الله- في كل مجال عمل فيه رائدًا، ففي الأدب كان رائد الأدباء في موطنه الأغلى مكة المكرمة، ولعلنا لا نزال نذكر كتاب “أدب الحجاز”، فهو كان أول مؤلف يكشف عن أن في هذا الوطن كُتَّابا وشعراء، فكان صفحة مزدهرة بكتابات ناشئة الأدب في البلاد.
ولا ننسى أبدًا كتابه الآخر “المعرض”، الذي كان أشبه بالاستفتاء على استعمال اللغة العربية الفصحى في الحياة اليومية، فخرًا بها وحفاظًا عليها، وكتب إليه نجوم الأدب والفكر في البلاد مقالاتهم في هذا الشأن ليضمها هذا الكِتَاب، يوم أن كان صدور كِتَاب في مجتمعنا معجزة.
والصبان -رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان- كان رجل دولة من طراز فريد، تنقّل في مناصبها من وظائفها الدنيا إلى العليا، حتى كان من الوزراء الأهم في الوطن، حيث كانت وزارة المالية حينئذ هي الوزارة الأم للجهاز التنفيذي كله في البلاد، والقائدة له.
وهو قامة وطنية شامخة منذ شبابه، ينادي بالإصلاح في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العامة، ولم يكل أو يتعب يومًا.
فكانت له الريادة في المجال الثقافي، حيث أنشأ مكتبة عامة في كل من مكة وجدة، واهتم أن يلتقي أدباء الوطن بأندادهم في العالم العربي عند زيارتهم المملكة.
واهتم بإنشاء الشركات في المجال المدني، ولعل تلك الشركات هي النواة الأولى للمجتمع المدني في هذا الجزء من الوطن، الذي كانت حركة معاليه فيه أكبر، ولو توالى إنشاؤها وإنشاء المشروعات الوطنية الكبرى بنفس الوهج لكان لنا اليوم مجتمع مدني ذو حراك مشهود.
لقد تمنيت أن أكون مشاركا في هذا الاحتفاء الذي قدم له أصدقاؤنا من خارج البلاد، ولكن ظرفي الصحي حال دون ذلك، ولكني أتابع من داري، ومن فوق فراشي في مكتبتي المتواضعة كل الحراك الثقافي والوطني، وأسعى ما استطعت وأتاح لي الظرف أن أكون مشاركًا في هذا الحراك، فهو ما يربطني اليوم بالحياة، وإن افتقدت بعض الأصدقاء، ولكن حولي من المحبّين ما أحمد الله على تواصلهم، فهم من يمنحونني دافعًا أن أستمر ما حييت في هذا التواصل.. والله ولي التوفيق.