الاختلاف السائغ شرعًا

الساعون اليوم لإكراه الناس على مذهب واحد أيًّا كان صاحبه، وأيًّا كان قدره، يطلبون مستحيلاً لن يتحقق، وكذلك مَن يريد منهم أن يُكره الناس على اتّباع أقوال انتخبها من أقوال العلماء من قديم الزمان أو حديثه.

لا أحد يشك أصلاً أن ما ثبت حكمه بدليل قطعي من كتاب، أو سنة، أو إجماع فليس لأحد أن ينازع فيه، وأمّا إذا جاء الدليل ظنيًّا، ودلالته -وإن كان وروده متواترًا- ظنية، فهو ما تعدد الاجتهادات في استنباط الحكم منه، وهو ما أوجد عند علماء الأمة من لدن الصحابة -رضوان الله عليهم- وحتى يوم الناس هذا الاختلافات في فقه الأحكام، والذي نرى آثاره بكل الوضوح ما أن تفتح كتابًا في الفقه، أو في الاختلاف الفقهي، أو ما سمّيناه -حديثًا- الفقه المقارن، إلاّ وتجد هذا الاختلاف واضحًا جليًّا، ونستحضر لذلك مثالاً ونموذجًا عليه إقرار من النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب: “لا يصلّينّ أحدٌ العصرَ إلاَّ في بني قريظة”، فأدرك العصر بعض صحابته في الطريق، فقالوا: لا نصلّي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلّي، لم يرد منا ذلك، فذُكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنّف أحدًا منهم، وقال ابن القيم -رحمه الله- في أعلام الموقعين: وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- في كثير من الأحكام، ولم يعنّفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاّها في الطريق، وقال: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا للمعنى، واجتهد آخرون وأخّروها إلى بني قريظة فصلّوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ.. وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس.
وقال السهيلي: في هذا الحديث من الفقه إنه لا يُعاب على مَن أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النصّ معنى يخصصه، والأئمة -رحمهم الله- كانوا لا يرون أن يقلدوا، وقالوا: خذوا من حيث أخذنا، ما دام الآخذ عالمًا عرف أصول الفقه وضوابط الاختلاف.
وفي زماننا، ونحن نعرف أن علماء الأمة الأبرار قد اجتهدوا واختلفوا، ونتج عن ذلك أربعة مذاهب لأهل السنة، ولهم مذاهب أخر توارت؛ لأن مجتهديها لم يكن لهم تلاميذ ينشرون مذاهبهم، أو فرّطوا في ذلك.
ولا أظن أن الطوائف الأخرى المنتسبة للإسلام إلاّ لديها ما لدينا من اختلاف في الفقه، وهذا الاختلاف على مر العصور، ومع دائرة الاجتهاد، وتعددت الأقوال فاتّسع للناس الفقه، ولم يضق على كل ما استجدّ لهم من وقائع.
والساعون اليوم لإكراه الناس على مذهب واحد، أيًّا كان صاحبه، وأيًّا كان قدره، يطلبون مستحيلاً لن يتحقق، وكذلك مَن يريد منهم أن يُكرِه الناس على اتّباع أقوال انتخبها من أقوال العلماء في قديم الزمان أو حديثه، فهو يروم أمرًا لن يتحقق أبدًا، ورحم الله الإمام مالك بن أنس حينما أراد منه الخليفة أن يجمع الناس على علمه المتمثل في موطئه قال: (إن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع، وافترقوا في البلدان، وكل عند نفسه مصيب)، ورفض -رحمه الله- أن يُكرِه الناس على اتّباع ما اجتهد فيه، والإمام أحمد يقول: (لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولا يشدّد عليهم)، لذلك رأى العلماء أن ما وقع فيه الاختلاف لا يكون مجالاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويرون أنه لا إنكار فيما يسوغ فيه الاختلاف في الفروع على من اجتهد فيه، أو قلد مجتهدًا فيه، وهذا ظاهر مذهب الإمام أحمد ذكره القاضي، ونقله عنه ابن مفلح في كتابه الآداب الشرعية والمنح المرضية، وهو المعتمد في مذهب الإمام الشافعي فيما نقله الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الإمام الشافعي، وقال: من قواعد مذهبه أنه لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه، وقال ابن تيمية -رحمه الله- مسائل الاجتهاد مَن عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومَن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه.
حتى أن جمهور الفقهاء جعلوا من قواعد مذاهبهم مراعاة الخلاف في مسائل كثيرة، في كل مذهب يأخذ بعضهم بقول بعض خروجًا من الخلاف، لأنهم لا يرون تخطئة المجتهد فيما اجتهد، إلاَّ ما كان ظاهرًا أنه مخالف للنصّ من كتاب الله، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحينئذٍ لا يكون اجتهادًا صحيحًا، ولا يُعتد به.
فإذا كان ما وقع الاختلاف فيه لا يدّعي أحد فيه أن أحد القولين منكر أو بدعة، ولا ينكر على الآخذ به، فإن هذا هو الصواب والعدل، لأن ما اجتهد فيه المجتهد مهما كانت مكانته بين المجتهدين، لا يستطيع أن يجزم بأنه الحق وغيره خطأ، فالإمام أحمد يقول: (على الرجل أن يجتهد، ولا يدري أصاب أو أخطأ)، فالكل معرض للخطأ بنص الحديث: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)، فإذا كان لا يستطيع القطع بأنه أصاب فمن باب الأولى ألاّ يكون له الحق في تخطئة غيره، أو حمل الناس على رأيه، وإنما نصحه لهم اجتهاده.
وهذا ما كان عليه السلف من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد اختلفوا في الفروع، وأخذ كل منهم بما أدّى إليه اجتهاده، ولم يحمل أحدهم صاحبه على قوله، يشهد لذلك ما امتلأت به الكتب فيما وقع بينهم من اختلاف من مسائل العلم.
ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: (الذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد، ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد).
ويبقى أن نقول مَن قصر علمه لإدراك هذا كله، ولم يرضَ في مسألة خلافية كتغطية وجه المرأة إلاَّ أن يصير الناس إلى رأيه، فإن لم يفعلوا هدّدهم وحرّض عليهم العامة فهو جاهل بعلم الاختلاف، لم يعرفه، ولم يطلع عليه، وكان حقًّا عليه ألاّ يؤذي المؤمنين بما يقول.
أرانا الله الحق حقًّا ورزقنا اتباعه، وأرانا الباطل باطلاً ورزقنا اجتنابه. فاللهم وفقنا وإخواننا إلى كل خير، وأبعد عنا كل شر.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: