“الطاعة”.. لمن تجب؟!

في تراثنا الديني أقوال تتردد وتتناقلها الألسنة، وتسمعها من فوق المنابر، ويظن الناس أنها جزء من الأحكام الشرعية المدونة في العلوم الدينية وأن لها أصلاً ودليلاً يحتج به عليها، وهي في الحقيقة قول لعالم اجتهد به ولكنه لا أصل له ولا دليل.
ومن هذه المقولات مقولة: “أن ولاة الأمر هم الأمراء والعلماء”، وهي من المقولات التي ترد عند بعض المفسرين عند شرح الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) فيذكرون الأقوال فيمن هم ولاة الأمر الوارد ذكرهم في الآية فيذكرون أن الولاة هم الأمراء عند الجمهور وينسبون هذا إلى أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما، وأنه قول الإمام علي بن أبي طالب الخليفة الراشد رضي الله عنه حيث قال: حق على الإمام أن يحكم بالعدل ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه، ويستدلون لذلك بقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله ومن يطع الأمير (أو أميري) فقد أطاعني، ومن يعصي الأمير فقد عصاني)، ولقوله صلى الله عليه وسلم (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (اسمع واطع ولو لعبد حبشي رأسه زبيبة)، والآية نزلت في عبدالله بن حذافة بن قيس بن عدي حيث بعثه رسول الله في سرية فحدث بينه وبين أفرادها خلاف فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بطاعتي فقالوا: نعم قال: اجمعوا حطباً ثم أمرهم بإشعال النار فيه ثم أمرهم أن يقتحموها، فقال أحدهم:إنكم بإمانكم إن فررتم من النار فلا تقتحموها حتى نعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعرض الأمرعليه، ويستدلون بذلك أن الطاعة للأمراء هي تبع لطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وليست مستقلة عن طاعتهما، فإذا أمر الحاكم أو الأمير بمعصية مثل هذه فلا طاعة له، وهو ما أقرهم عليه سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، والطاعة للإمام وأمرائه إنما هي من أجل أن يقوموا بما وجب عليهم ولضرورة أن تمكن الدولة من تنفيذ مهامها وتنفيذ أهدافها وكأن ابن القيم رحمه الله قد رجح هذا الرأي ومال إليه، فقد جعل لكل من الأمراء مهمتهم، وكذا للعلماء مهامهم.
والقول الثاني: إن ولاة الأمر هم الفقهاء والعلماء روى عن ابن عباس وجاء رضي الله عنهما، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد وقالوا: هم الأمراء والعلماء مستشهدين بقول الله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)، ومعنى الآية: أنهم إذا سمعوا شيئاً من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتلهم العدو، أو ضد هذا من الخوف من عدو أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته وقيل: إن هذا كان من ضعفة المسلمين وروى عن الحسن لأنهم كانوا يفشون أمر النبي ويظنون ألا شيء عليهم في ذلك، وقال: الضحاك وابن زيد: هو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب والإرجاف، وردوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفشوه، حتى هو الذي يتحدث به ويفشيه أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه: عن الحسن وقتادة، وقال السدي وابن زيد: الولاة وقيل: أمراء السرايا.
وعليه فالرأي الأول هو الأظهر وهو المعتمد على أدلة أكثر وأوضح، ومع هذا فهناك من قال: إن المقصود بالولاة: المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان، وقال عكرمة: أراد بأولي الأمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وكل استشهد بنص فالأولون استشهدوا بقول الله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار)، ومن بعدهم استشهد بقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أراني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما).
ومن هنا فإطلاق مقولة: أن ليس هناك كتاب في التفسير أو الشريعة وإلا وفيه مقولة: (أن ولاة الأمر هم العلماء والأمراء)، مضادة للواقع بعيدة عن الحقيقة وإلباسها لبوس حكم شرعي أبعد عن حقيقة الدين، فالولايات في الإسلام متعددة وكل منها لها اختصاص فهناك ولاية للحاكم ونوابه كالوزراء والأمراء، وهناك ولاية للحرب وأخرى للمال وغير ذلك من الولاية على اليتامى والنساء والسفهاء إلخ ما نعرف من الولايات.
والعالم كما هو الحاكم له أوصافه وشروطه عند الفقهاء، وكل منهما له وظيفته، والقول بأنهما يقومان بعمل واحد وجمعهما في ولاية واحدة غير صحيح لا من الناحية العقلية ولا الشرعية، فهذا يولد ازدواجية بجعل الطاعة لكليهما مستحيلة إذا تعارضا، ومن مصلحة المسلمين اليوم أن تكون البيعة المترتبة عليها الطاعة في المعروف للسلطة التي يترأسها الحاكم ونوابه، ولا تكون للعلماء فأعلاهم درجة المجتهد يفتي ولا يصح له أن يلزم الناس بفتياه، ولعلي أوضحت هذا الأمر بما فيه الكفاية وسأكتب فيما بعد بحثاً إن أعانني الله عليه.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: