إن ممارسة الاختلاف السائغ شرعاً لا يعني حرباً تمارس بكل أدوات الحرب الكلامية عبر وسائل الإعلام كافة قديمها والجديد، فهذا أمر استجد في هذا العصر فنقل الاختلاف في المسائل العلمية الدينية في مقاصده النبيلة للوصول إلى ما هو أقرب للحق ومراد الشارع إلى ألوان من الجدل عقيم الفائدة، وإذا به يؤدي إلى ضد ما شرع له.
فقد كان أبرز علماء الدين يرسمون لهذا الاختلاف ضوابط وآداباً تمنع من يتحول إلى خصومات جدلية غير منتجة، فهم يرون أن الاجتهاد في المسائل العلمية واجب العالم الذي بلغ درجة من العلم لا يدانيه فيها كثير من العلماء، جعلوها رتبة للاجتهاد، قل أن يبلغها من علماء العصر أحد، وإذا اجتهد فاجتهاده في نطاق قول سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) وقال الإمام النووي في شرح مسلم: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حكم عالم أُهِلَ للحكم، فإن أصاب فله أجران: أجر اجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده، ومعنى هذا ألا يصح أن يدعي أحد بأنه مصيب أبداً وغيره ممن هو مثله مخطئ أبداً، لذا قال قائلهم: رأيي عندي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري عندي خطأ يحتمل الصواب، ومعنى هذا ألا يستقر أحد على خطأ، ثم يدعي أنه الحق أو مراد الشرع، ولهذا كانت فتوى المجتهد وهي لا تصح من سواه، غير ملزمة لغيره من المجتهدين ولا للناس عامة، ولهذا تواردت أقوال الأئمة الأربعة ألا يحمل الناس على مذاهبهم، فقد قال الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله –: (لا ينبغي للفقيه حمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم)، وقال إمام دار الهجرة مالك بن أنس: لما أراد الخليفة أن يحمل الناس على مذهبه المتمثل في علمه في موطئه: (إن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اختلفوا في الفروع وافترقوا في البلدان وكل عند نفسه مصيب) وكأنه يقر باختلاف العلماء في مسائل العلم الشرعي ولا يرى أن يكره الناس على رأي معين، وهو ما كان سائداً في القرون الأولى التي لها الأفضلية، والتي نشأت فيها علوم الدين التي ندرسها اليوم، فنحن إنما نأخذ من خزانة هم من صنعوها ثم ملؤوها بتراث علمي ضخم، ظللنا على مدى العصور ننهل منه ونتوسع فيه، على مناهج هم من رسموها، وإذا نحن اليوم خالفناها فإنما بجهل منا نخالف، ولا يظن أحد أني أحجر على المعاصرين أن يجتهدوا كما اجتهد السلف، وإنما يكون اختلافنا منضبطاً بضوابط وردت في النصوص الشرعية، واعتبرها علماء الأمة في خير قرونها، وأولها ألا يحول الاختلاف العلمي السائغ في المسائل الدينية إلى خصومات تؤدي بأهل العلم إلى أن يتحاربوا ويسيء بعضهم إلى بعض، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر أمته من آفة الكلام حينما يتحول إلى سباب وشتائم ففي حديث صحيح أخبر رسول الله صاحبه الجليل معاذ بن جبل بالأعمال التي تدخله الجنة وتباعده من النار حتى قال له: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله فقال معاذ: بلى فأخذ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه وقال: تكف هذا فقال معاذ رضي الله عنه: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم).
وهذا هو ما يغفل عنه المختلفون اليوم يقول ابن القيم رحمه الله: (من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يزال بالكلمة الواحدة بين المشرق والمغرب وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم لسانه يغري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي).
فما يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم من الكفر والقذف والشتيمة والغيبة والنميمة والبهتان، وتكفير المسلمين لأوهام علقت بالأذهان، وتبديع بعضهم وتفسيقهم دون حجة أو برهان، وهو ما نراه اليوم على ألسنة كثير ممن يدعون أنهم ينتسبون إلى العلم، وألسنتهم لا تكف عن ذم الخلق وشتمهم وسبابهم، وهو ما نسمعه اليوم من فوق المنابر وفي الصحف وفي صفحات الإنترنت وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وكأن هذا المجتمع لا يتحاور الناس فيه إلا عبر هذا الأسلوب المتدني، الذي كله بذاءات تجري على الألسنة بسهولة، وكأن الناس لا يرون فيها شيئاً محرماً مع أن نطقها من كبائر الذنوب المهلكة.
وحينما يتحدث الناصحون بذلك لا يجدون سوى هجاء بأقذر ما نطق الإنسان من بذاءات دون رادع من دين أو خلق، ثم يدعي هؤلاء أنهم ينصرون الدين بمثل هذا وهيهات أن ينصر الدين بما حرمته نصوصه وما دعا الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – لاجتنابه، لكنها ثقافة سادت ونرجو الله عز وجل أن تبيد، وأن يردع مستعملوها ومن ينشرونها في هذا المجتمع الطيب بعقوبة ينزلها عليهم تردعهم عن مثل هذا حماية لعباده ودينه إنه القادر على ذلك والمجيب لصالح الدعاء وصلى الله وسلم على خير من بعث بمكارم الأخلاق.
الوسومالاختلاف الشرعي العلمي الفقهي حربا شرعا
شاهد أيضاً
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …