الاتفاق على أصول العقيدة التي لا اختلاف فيها يؤدّي حتمًا إلى درء توسع الاختلاف.. حتى لا يأتي على الأصول..
الاختلاف بين البشر فطرة فيهم, والاتفاق بينهم إلى حد التطابق, في كل شيء أمر كاد أن يكون مستحيلاً, يشير إلى ذلك قول الله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ مَن رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين), ورغم أن أصل البشر الذي يرجعون إليه واحد, إلاَّ أن الله جعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارفوا, ثم جعل لهم عقولاً يدركون بها, وتنوعت بين ذكية وخاملة, فأوتي كل من العلم قدر ما أدرك ووعى, فتعددت ألوانهم ولغاتهم, ثم أديانهم عبر الزمن ليتعايشوا فوق هذه الأرض, ولو ذهب منهم صنف إلى أن يستأصل غيره لما استطاع, وهذا اللون من الاختلاف ضرورة لا يمكن زوالها, والاعتراف بها حقيقة, والتعايش معها أمر لا بد منه لتمضي الحياة إلى غايتها, وتصوّر أمر غير هذا هو لون من السذاجة, لا يقود إلاّ إلى جهل بالحياة البشرية, وما فُطر عليه البشر, وهذا هو المستوى الأعظم للاختلاف والذي قد يقود الناس إلى الصراع الفكري المعتمد على الأديان وتنوعها, وما لم تحسن البشرية حل هذا الصراع عقليًّا؛ لتتعايش وإلاّ دام الصراع الدموي بينها حتى لا يبقى للحياة معنى, ولهذا جاء الإسلام -وهو آخر الرسالات الإلهية إلى هذه الأرض- يدعو إلى دين هو آخر الأديان, والباقي حتى تقوم الساعة, فجعل لدعوته أسلوبًا حضاريًّا لم تعهده البشرية من قبل, فدعا إلى الإيمان الاختياري دون قسر ولا إكراه, وجاء نصه صريحًا, فقال الله عز وجل: (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم), بل قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: (فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر), ويقول مخاطبًا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين), ورسم طريق الدعوة إلى هذا الدين فخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين), فالدعوة على هذه الصورة تصل الى العقول والقلوب, ومع الالتزام بالدين -أمرًا ونهيًا وأخلاقًا- يتيح للمدعوين القدوة التي تتبع, وكان أولها القدوة بالنبي لمتبعيه, حيث يقول الله عز وجل: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا), وإذا هم اقتدوا به فكانوا على نهجه التزامًا بالدين والخلق ورقي سلوكهم اتبعهم الناس بيسر وسهولة مع العلم الصحيح بدينهم, ولم يشرع قط القتال في الإسلام ليجبر الناس على اعتناق الإسلام, وهذا ما نشره في أرض الله وفي مدة يسيرة, وإنما يشرع القتال لرد عدوان, أو منع للمسلمين أن يدعو الناس إلى دينهم سلمًا, وبمثل هذا ستبقى بين الأمم أواصر تربطهم إنسانيًّا بما لهم من مصالح, وتقلل فرص الحروب الدينية إلى أقصى حد, هذا في اختلاف الأمم عبر الأديان, ويبقى أن الاختلاف منذ القدم وقع بين أهل الدين الواحد, حتى في الأديان الكتابية, أو الإلهية, وهو أمر ملاحظ لا يحتاج إلى تدليل, ففي اليهودية والنصرانية, وأخيرًا في الإسلام وجد هذا الاختلاف, وعاشت به الأمم ما دامت تتفق على أصول له وقواعد, ويهمنا هنا الإسلام, فالاختلاف فيه عقديًّا ينفر منه الجميع, ولكنه وقع. والاتفاق على أصول العقيدة التي لا اختلاف فيها يؤدّي حتمًا إلى درء توسّع هذا الاختلاف حتّى لا يأتي على الأصول. فقضية الإيمان وأركانه, والأسلام وأركانه, والإحسان وأحواله؛ ممّا يكاد تجمع عليه الأمة, وأمّا الاختلاف السائغ في الفروع الفقهية, فقد عاشت أمتنا به هذا الزمن الطويل, ولم يحدث فرقة قط إلاّ في أحوال نادرة جدًّا لم يكن هو المتسبب فيها, وإنما التعصب الشديد للعلماء المجتهدين, أو تقديسهم أحيانًا قاد إلى هذا, ولو أن الأمة وعت هذا لعادت سيرتها الأولى, يوم أن كان في عهد سيد الخلق المصطفى صلى الله عليه وسلم, حيث كانت المحبة والمودة الرباط الأعظم بين الأمة, وعلّنا نعود إلى ذاك الصفاء, بجهود العقلاء من أمتنا فهو ما نرجو. والله ولي التوفيق.