ليس علماء الدِّين أو المنتسبون إليه فقط، هم المطالبون بالاعتدال والوسطيَّة، بل والطرف الآخر الذي قد يخالفهم، مطَالب -أيضًا- بالاعتدال والتوسط في أفكاره، بحيث لا يكون اختلافه حادًّا للطرف الآخر، فيخرج عن اختلافه معهم إلى عداءٍ لما يُمثِّلونه ممَّا لا يمكن أن يُعَادَى، لأنَّه دين أمَّة وصفها ربُّها بأنَّها خيرُ أمَّة أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وهي أمَّة ستبقى كذلك حتَّى يوم القيامة -بإذن الله-، ولن تختفي من هذا العالم أبدًا، ولعلَّه ستختفي منه أممٌ ودولٌ، ويبقى لهذا الدِّين وجود إلاَّ في فترة قريبة من نهاية الدنيا حقيقة، فلا يبقى على وجه الأرض إلاَّ شِرار الخَلق لتقوم عليهم الساعة، وتلك حقائق ثابتة لا يشك فيها المؤمنون، فإذا أردنا أن تسير حياتنا وسطًا بين الأمم، وأقدر على فهم هذه الدنيا، فلنعاود من جديد التثقُّف بالدِّين، فكثير منا -وللأسف- أعرض ونأى بجانبه عن هذا الدِّين وفلسفته في الحياة، لشدِّة غرامه وإعجابه بحضارة الغرب، والتي لا أقول إنَّها متديِّنة بالمسيحيَّة، فجُلُّ أهلها اليوم ملحدون، لا يرون في الدِّين إلاَّ عائقًا لهم أن يأتوا شهواتهم، فكان إعراضهم عنه ثقافة يمارسونها يوميًّا، حتَّى وإن لم يظهروا في الغالب عداءً للدِّين، أمَّا عندنا من أمثالهم فالعداء للدِّين قبل العداء لمن يحملونه، فلم يتركوا مصدرًا من مصادر الدِّين في علومه المختلفة إلاَّ وهاجموه بشراسة، وكذا علمائه من لدن علماء الصحابة، وحتَّى يوم الناس هذا وبكل وقاحة ممكنة، معتمدين أنَّنا في زمان تتناوش دولنا الإسلاميَّة السهام من كل جانب، حتَّى أصبحت في حال لا يمكِّنها من فتح جبهات متعدِّدة خاصَّةً وأنَّ الأعداء أقوى حربًا وسلمًا، وهي تداري الأخطار ما أمكنها ذلك، ولولا هذه الحالة لعرفت كيف تواجه هذا العداء للدِّين بأحكامه، فلا يُتاح لمرجف أو متأوِّل بجهل، أو قائل بلا علم، أن يهجم على أصول الدِّين وثوابته ولا يُعاقب، فأثمن ما في حياة الأمم دينها، تحافظ عليه وتمنع العبث به وبأحكامه أيًّا كان العابث ومكانته، ولا يزال حتَّى اليوم هناك أمم تحافظ على أديانها، هذا موجود حتَّى في الحفاظ على أديان غير صحيحة، وناتجة عن أفكار بشريَّة، ولكن أهلها يحافظون عليها، ويمنعون أن تستهدف بالهجوم عليها، أو السخرية منها، وتعاقب بشدَّة من يفعل ذلك.
وإن تماهلنا في ذلك بعض الوقت، فلا أظنُّ أنَّنا رضينا هذا لنُرضِي الناسَ ونُغضب اللهَ، ويجب على المسلمين كافَّة أن يردُّوا عبث أعداء الدِّين أيًّا كانوا، ومَن كانوا، وعدم السماح لهم بمهاجمة أصول الدِّين ومصادره بقبضة قوّية، لا يبقى معها في الساحة مَن يتطاول على سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ومصادرها الأساسيَّة، ولا مَن يتَّهم علماء الأمة الأبرار، الذين تركوا ثروةً علميَّة كبيرة لأمَّتهم، كما لم تبقِ أمَّة في دينها من سلفها لخلفها ما يبنون عليه، وإنَّنا إن لم نفعل فإنَّا نسرع فيما ينتظر لنا من إضعاف يبلغ بنا أن نسلِّم بكل عدوان علينا، فإذا لم نحمِ ديننا فنحن أعجز عن حماية غيره، فلن نستطيع حماية وحدتنا الوطنيَّة، ولا أمن ولا أمان لبلاد نعمت بالأمن زمنًا طويلاً، ومازالت تنعم به، لتمسكها بأهداب الدِّين، والإصلاح الدِّيني حتمًا لن يقوم به مَن يجهلون علوم الدِّين ومقاصده وغاياته وقواعده، وليس لهم اطِّلاع على مصادره، وكيف أُعدِّت ومَن ألَّفها بجهود خارقة اقتضت منهم أعمارًا في عمل دون كلل، ليله مع نهاره، ليأتي مَن يجهل كلَّ ذلك ليهدم بظنِّه بمقالة أو مقالتين، لا سطر واحد فيها مبني على علم.
اللهم احفظ دينك، وهيِّئ له من عبادك الصالحين مَن يعمل على حفظه ونشره، إنَّك سميع مجيب.