ممّا لا شك فيه أن التكفير حكم شرعي لا يتناوله الإفتاء، لأنه حكم تترتب عليه عقوبة بالغة القسوة، تؤدّي إلى استحلال إزهاق الأرواح المعصومة، واستحلال أموالها، ولا يكون هذا إلاّ بحكم قاضٍ، وإلاّ لأهدرت دماء كثيرة، واستحلت أموال عظيمة، والفتوى لا تكون إلاّ من مجتهد باتفاق العلماء، والمجتهد هو مَن يبحث عن أحكام للوقائع المستجدة، وليس لما استقرت فيها الأحكام، والمجتهد نوعان: الأول مجتهد مطلق كالأئمة الأربعة، وهو ما جعل له الأصوليون شروطًا تمنع غيره من الحديث في أحكام الوقائع الجديدة والمهمّة في حياة المسلمين،
وهذا المجتهد كاد أن يختفي من ساحة الحياة عند المسلمين إلاَّ ما ندر، وأظنّ أن أهل العلم يدركون هذا، فرغم تقدم وسائل الحصول على العلم في هذا العصر، إلاّ أن المجتهد الذي تتوافر فيه الشروط كاد أن يكون مفقودًا، والنوع الثاني: المجتهد المقيّد وهو الذي له اطلاع واسع على مذهبه، ويستطيع معرفة الأقوال والأوجه فيه، ويستطيع معرفة الراجح منها، وهذا يفتي أهل مذهبه بما فيه من أحكام لوقائع اجتهد فيها من قبل، ونادرًا ما تكون له القدرة على الوصول لحكم وقائع جديدة، يحتاج المسلمون إلى حكم فيها، لذا ظهرت دعوة إلى أن يكون الاجتهاد في القضايا المهمّة جماعيًّا، وحبّذا لو أضيف إليه شرط آخر أن يكونوا من المجتهدين فعلاً، فمَن لا يملك ملكة الاجتهاد لتوافر شروط الاجتهاد فيه، سيكون اجتهاده وبالاً على الأمة يجب اجتنابه.
ولأننا في مجتمعاتنا عانينا كثيرًا من قضية التكفير، والتي نتج عنها تفجير وإزهاق أرواح مرات عديدة، حيث امتلأت بعض رؤوس الجُهّال، وصغار السن بأقوالٍ تدّعي تغريب المجتمع المسلم، ممّا أنتج تكفيرًا للمجتمع كله في رؤوس جماعة حزبية شغلها الشاغل أن تصل إلى الحكم، لا في بلادنا، بل وفي كل بلاد المسلمين، ولا تخفي هذا بدعاوى كثيرة منها الدعوة إلى إقامة الخلافة كما يزعمون، ولا وسيلة لهؤلاء لنشر أفكارهم سوى آلياتهم المحببة المتمثلة بالتكفير، حيث يبدأ بتكفير أفراد ومؤسسات، وينتهي بتكفير المجتمع كله، وهذه الآلية ابتدعتها فرقة الخوارج، وأصبحت تتردد على ألسنة خوارج العصر ومؤيديهم من الأفراد الغلاة، والجماعات الحزبية المتطرّفة، ولذلك نجد من شبابنا مَن غرَّهم هذا الفكر، وتحوّلوا إلى خوارج بغاة، وتجد منهم -في كل بلد يثور فيه قتال- أعدادًا تتكاثر، تزعم أنها تجاهد المرتدين.
ولعلّ أول خطوة وأهمّها نتخذها ويتخذها المسلمون معنا مواجهة تيار الغلو، الذي دفع هؤلاء إلى أفعالهم الشنيعة، فالغلو في الدين حتمًا يولّد التكفير، الذي يولّد عنف الخروج والبغي، ومَن قرأ التاريخ وأمعن النظر في أحداثه من بدء ظهور الإسلام وحتى اليوم يدرك ما أقول، ويعلم أنه حقيقة، فلا تكفير بلا غلو، ولا غلو بلا تكفير، ينتج عنه عنف يعطّل الحياة، ويزيد مآسيها، وما لم نتنبّه لهذا، ونضع خطة لمواجهة الغلو في مجتمعاتنا الإسلامية كلها، ونبحث عن جذور هذا الغلو في ثقافاتنا السائدة في دولنا، فإنا نفرّط في مستقبلنا، فتزايد أعداد هؤلاء المغالين، الذين يبثون أفكارًا لا ينتج عنها سوى عنف وإرهاب سيقضي على الحياة في أوطاننا المسلمة، ويحولها إلى ميادين قتال لا ينتهي فيها القتال أبدًا، وما يجري في العراق وأفغانستان والصومال منذ زمن، وليبيا هذه الأيام، يرسم لنا الصورة واضحة لما ينتظر دولنا الإسلامية ما لم نواجه الغلو المؤدّي إلى التكفير، الذي ينتج حتمًا عنفًا متصاعدًا في كل مكان ينتشر فيه، فحاجتنا اليوم ماسّة إلى خطاب ديني متوازن يقضي على التطرّف في كل جوانب الحياة، ولن يصلح أن نعتمد على من أفسدوا الخطاب الديني من الغلاة أن يصلحوه، فهذا أمر يزيده انحرافًا ولا يصلحه، فهل نحن واعون لذلك كله؟ هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.